وَ (لَا يَسْجُدُونَ) عُطِفَ عَلَى لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ ظَرْفٌ قُدِّمَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَتَنْوِيهِ شَأْنِ الْقُرْآنِ.
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ قِرَاءَتُهُ تَبْلِيغٍ وَدَعْوَةٍ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ جَمَاعَاتٍ وَأَفْرَادًا وَقَدْ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ: «لَا تَغُشُّنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا» وَقَرَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ عَبَسَ.
وَالسُّجُودُ مُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَن: ٦] وَقَوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ [النَّحْل: ٤٨] ، أَي إِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَخْضَعُونَ لِلَّهِ وَلِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَحُجَّتِهِ، وَلَا يُؤمنُونَ بحقيته وَدَلِيلُ هَذَا الْمَعْنَى مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: ٢٢] .
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ سَجْدَةً مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ خِلَافًا لِابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ سُجُودَاتِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ سُنَّةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَاجِبَةٌ.
وَالْأَرْجَحُ أَنَّ عزائم السُّجُود المسنونة إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً وَهِيَ الَّتِي رُوِيَتْ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَإِنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ غَيْرَ الْإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً رُوِيَتْ فِيهَا أَخْبَارٌ أَنَّهَا سَجَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا مِنْهَا هَذِهِ وَعَارَضَتْهَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى فَهِيَ: إِمَّا قَدْ تَرَكَ سُجُودَهَا، وَإِمَّا لَمْ يُؤَكِّدْ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ السُّجُودُ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ اهـ.
قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بَلْ ذَلِكَ فِي السَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْإِحْدَى عَشْرَةَ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَعْدَ أَنْ رَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ:
«الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ عَزَائِمَ السُّجُودِ إِحْدَى عَشْرَةَ بِزِيَادَة سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمَفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ» وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: سَجَدَاتُ التِّلَاوَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ بِزِيَادَةِ سَجْدَةِ سُورَةِ النَّجْمِ وَسَجْدَةِ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ وَسَجْدَةِ سُورَةِ الْعَلَقِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: هُنَّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً بِزِيَادَةِ السَّجْدَةِ فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ فَفِيهَا سَجْدَتَانِ عِنْده.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute