وَالْكَبِيرُ فِي الْأَصْلِ هُوَ عَظِيمُ الْجُثَّةِ مِنْ نَوْعِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْقَوِيِّ وَالْكَثِيرِ وَالْمُسِنِّ وَالْفَاحِشِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، شَبَّهَ الْقَوِيَّ فِي نَوْعِهِ بِعَظِيمِ
الْجُثَّةِ فِي الْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ مَأْلُوفٌ فِي أَنَّهُ قَوِيٌّ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَظِيمِ فِي الْمَآثِمِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، مِثْلَ تَسْمِيَةِ الذَّنْبِ كَبِيرَةً،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ»
الْحَدِيثَ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِثْمٌ كَبِيرٌ، فَالنَّكِرَةُ هُنَا لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، إِذْ لَا خُصُوصِيَّةَ لِقِتَالِ قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ، وَلَا لِقَتْلٍ فِي شَهْرٍ دُونَ غَيْرِهِ، لَا سِيَّمَا وَمُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ قَدْ أَكَّدَتِ الْعُمُومَ، لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ حُكْمُ هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ الْقِتَالُ فِي هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَإِنَّ أَجْدَرَ أَفْرَادِ الْقِتَالِ بِأَنْ يَكُونَ مُبَاحًا هُوَ قِتَالُنَا الْمُشْرِكِينَ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ التَّحَرُّجُ مِنْهُ، أَمَّا تَقَاتُلُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَخْتَصُّ إِثْمُهُ بِوُقُوعِهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا قِتَالُ الْأُمَمِ الْآخَرِينَ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ حِينَئِذٍ.
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَتَقْرِيرٌ لِمَا لِتِلْكَ الْأَشْهَرِ مِنَ الْحُرْمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهَا مُنْذُ زَمَنٍ قَدِيمٍ، لَعَلَّهُ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ حُرْمَةَ الزَّمَانِ تَقْتَضِي تَرْكَ الْإِثْمِ فِي مُدَّتِهِ.
وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ هِيَ زَمَنٌ لِلْحَجِّ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَخَوَاتِمِهِ وَلِلْعُمْرَةِ كَذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَحْرُمِ الْقِتَالُ فِي خِلَالِهَا لِتَعَطَّلَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ أَيَّامَ كَانَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مُشْرِكُونَ لِفَائِدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفَائِدَةِ الْحَجِّ، قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: ٩٧] الْآيَةَ.
وَتَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قَدْ خُصِّصَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ، فَأَمَّا تَخْصِيصُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَة: ١٩١، ١٩٤] . وَأَمَّا نَسْخُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِلَى قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: ١، ٥] فَإِنَّهَا صَرَّحَتْ بِإِبْطَالِ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْهُدْنَةِ، وَهُوَ الْعَهْدُ الْوَاقِعُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَهْدًا مُؤَقَّتًا بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَلَا بِالْأَبَدِ، وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute