والْبَلَدِ الْأَمِينِ: مَكَّةُ، سُمِّيَ الْأَمِينَ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، فَالْأَمِينُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مِثْلَ: «الدَّاعِي السَّمِيعِ» فِي بَيْتِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى وَجْهِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، أَيِ الْمَأْمُونُ سَاكِنُوهُ قَالَ تَعَالَى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قُرَيْش:
٤] .
وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ لِلتَّعْظِيمِ وَلِأَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَهُوَ حَاضِرٌ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: ١] .
وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَحْمِلَيْنِ الثَّانِيَيْنِ لِلتِّينِ وَالزَّيْتُونِ تَتِمُّ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْإِيمَانِ
وَتَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَوَارِدِ أَعْظَمِ الشَّرَائِعِ الْوَارِدَةِ لِلْبَشَرِ، فَالتِّينُ إِيمَاءٌ إِلَى رِسَالَةِ نُوحٍ وَهِيَ أَوَّلُ شَرِيعَةٍ لِرَسُولٍ، وَالزَّيْتُونُ إِيمَاءٌ إِلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْرَاءِ، وطُورِ سِينِينَ إِيمَاءٌ إِلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، والْبَلَدِ الْأَمِينِ إِيمَاءٌ إِلَى مَهْبِطِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَقَعْ إِيمَاءٌ إِلَى شَرِيعَةِ عِيسَى لِأَنَّهَا تَكْمِلَةٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ.
وَقَدْ يَكُونُ الزَّيْتُونُ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَكَانِ وَبِأَنَّهُ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى إِيمَاءً إِلَى مَكَانِ ظُهُورِ شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ تَنْزِلْ فِيهِ شَرِيعَةٌ قَبْلَ شَرِيعَةِ عِيسَى وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ إِيمَاءً إِلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ عَلَى أُصُولِ الْحَنِيفِيَّةِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ إِيمَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: ١٣] ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ تَرْتِيبُ الْإِيمَاءِ إِلَى شَرَائِعِ نُوحٍ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى تَرْتِيبِ ظُهُورِهَا فَتَوْجِيهُ مُخَالَفَةِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ لِلتَّرْتِيبِ الْخَارِجِيِّ أَنَّهُ لِمُرَاعَاةِ اقْتِرَانِ الِاسْمَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ عَنِ اسْمَيِ الثَّمَرَتَيْنِ، وَمُقَارَنَةِ الِاسْمَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنْ أَمَاكِنِ الْأَرْضِ، لِيَتَأَتَّى مُحَسِّنُ مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ وَمُحَسِّنُ التَّوْرِيَةِ، وَلِيُنَاسِبَ سِينِينَ فَوَاصِلَ السُّورَةِ.
وَفِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ بِالْقَسَمِ بِمَا يَشْمَلُ إِرَادَةَ مَهَابِطِ أَشْهَرِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِغَرَضِ السُّورَةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، أَيْ خَلَقَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مُدْرِكًا لِأَدِلَّةِ وجود الْخَالِق ووحدانية. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا خَالَفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute