للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَقَائِقِ الْهَدْيِ وَعَقَائِدِ الصَّوَابِ وَإِرَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى فَهْمِهَا بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ.

وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ عُطِفَ عَلَى التَّوَاصِي بِالْحَقِّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ خُصُوصُهُ خُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الصَّبْرَ تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَمَا يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمَ مِنْ أَذًى فِي نَفْسِهِ فِي إِقَامَةِ بَعْضِ الْحَقِّ.

وَحَقِيقَةُ الصَّبْرِ أَنَّهُ: مَنْعُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ مِنْ تَحْصِيلِ مَا يَشْتَهِيهِ أَوْ مِنْ مُحَاوَلَةِ تَحْصِيلِهِ (إِنْ كَانَ صَعْبَ الْحُصُولِ فَيَتْرُكُ مُحَاوَلَةَ تَحْصِيلِهِ لِخَوْفِ ضُرٍّ يَنْشَأُ عَنْ تَنَاوُلِهِ كَخَوْفِ غَضَبِ اللَّهِ أَوْ عِقَابِ وُلَاةِ الْأُمُورِ) أَوْ لِرَغْبَةٍ فِي حُصُولِ نَفْعٍ مِنْهُ (كَالصَّبْرِ عَلَى مَشَقَّةِ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ رَغْبَةً فِي الثَّوَابِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ رَغْبَةً فِي تَحْصِيلِ مَالٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ) .

وَمن الصَّبْر الصَّبْرِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ الْمُسْلِمُ إِذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ مِنِ امْتِعَاضِ بَعْضِ الْمَأْمُورِينَ بِهِ أَوْ مِنْ أَذَاهُمْ بِالْقَوْلِ كَمَنْ يَقُولُ لِآمِرِهِ: هَلَّا نَظَرْتَ فِي أَمْرِ نَفْسِكَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ كَالصَّبْرِ عَلَى تَجَشُّمِ السَّهَرِ فِي اللَّهْوِ وَالْمَعَاصِي، وَالصَّبْرِ عَلَى بَشَاعَةِ طَعْمِ الْخَمْرِ لِشَارِبِهَا، فَلَيْسَ مِنَ الصَّبْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّحَمُّلَ مُنْبَعِثٌ عَنْ رُجْحَانِ اشْتِهَاءِ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ فِي تَركهَا.

وَقل اشْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عَلَى إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، فَالْعَقَائِدُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَالْأَخْلَاقُ الدِّينِيَّةُ مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَقِّ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَتَجَنُّبُ السَّيِّئَاتِ مُنْدَرِجَةٌ فِي الصَّبْرِ.

وَالتَّخَلُّقُ بِالصَّبْرِ مِلَاكُ فَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا فَإِنَّ الِارْتِيَاضَ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ لَا يَخْلُو مِنْ حَمْلِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ شَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَفِي مُخَالَفَتِهَا تَعَبٌ يَقْتَضِي الصَّبْرَ عَلَيْهِ حَتَّى تَصِيرَ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ مَلَكَةً لِمَنْ رَاضَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ ... وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا