للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ كَانَ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ حَاصِلًا مَعَ سُؤَالِهِمْ مَاذَا يُنْفِقُونَ، فَعُطِفَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا جَوَابُ سُؤَالِهِمْ مَاذَا يُنْفِقُونَ عَلَى آيَةِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ الْأُسْلُوبُ الَّذِي سَلَفَ فِي الْآيَاتِ الْمُخْتَلفَة بجمل يَسْئَلُونَكَ بِدُونِ عَطْفٍ فَجِيءَ بِهَذِهِ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا.

وَمُنَاسَبَةُ التَّرْكِيبِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ تَعَطُّلُ إِنْفَاقٍ عَظِيمٍ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَحَاوِيجُ، فَبَيَّنَتْ لَهُمُ الْآيَةُ وَجْهَ الْإِنْفَاقِ الْحَقَّ.

رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ هَذَا مُعَاذُ ابْن جَبَلٍ وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وَقِيلَ هُوَ رُجُوعٌ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِ عَمْرِو بْنِ الْجُمُوحِ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ الْمُجَابُ عَنْهُ بقوله تَعَالَى:

يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ [الْبَقَرَة: ٢١٥] إِلَخْ، وَعَلَيْهِ فَالْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِهِ مُوَزَّعٌ عَلَى الْمَوْضِعَيْنِ لِيَقَعَ الْجَوَابُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ.

وَلِإِظْهَارِ مَا يَدْفَعُ تَوَقُّعَهُمْ تَعْطِيلَ نَفْعِ الْمَحَاوِيجِ وُصِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالَّتِي قَبْلَهَا بِوَاوِ الْعَطْفِ.

وَالْعَفْوُ: مَصْدَرُ عَفَا يَعْفُو إِذَا زَادَ وَنَمَى قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا [الْأَعْرَاف: ٩٥] ، وَهُوَ هُنَا مَا زَادَ عَلَى حَاجَةِ الْمَرْءِ مِنَ الْمَالِ أَيْ فَضَلَ بَعْدَ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ بِمُعْتَادِ أَمْثَالِهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْءَ لَيْسَ مُطَالَبًا بِارْتِكَابِ الْمَآثِمِ لِيُنْفِقَ عَلَى الْمَحَاوِيجِ، وَإِنَّمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِمَّا اسْتَفْضَلَهُ مِنْ مَالِهِ وَهَذَا أَمْرٌ بِإِنْفَاقٍ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَهَذَا أَفْضَلُ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ مَقْصِدَ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْإِنْفَاقِ إِقَامَةُ مَصَالِحِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِقْدَارٌ لَهُ بَالٌ إِلَّا بِتَعْمِيمِهِ وَدَوَامِهِ لِتَسْتَمِرَّ مِنْهُ مَقَادِيرُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّعْمِيمُ وَالدَّوَامُ بِالْإِنْفَاقِ مِنَ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَاتِ الْمُنْفِقِينَ فَحِينَئِذٍ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فَلَا يَتْرُكُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَا يُخِلُّونَ بِهِ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِهِمْ، وَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَأَصْلٌ اقْتِصَادِيٌّ عُمْرَانِيٌّ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»

فَإِنَّ

الْبَدَاءَةَ بِمَنْ يَعُولُ ضَرْبٌ مِنِ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّهُ إِنْ تَرَكَهُمْ فِي خَصَاصَةٍ احْتَاجُوا إِلَى الْأَخْذِ مِنْ أَمْوَالِ الْفُقَرَاءِ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»

أَيْ يَمُدُّونَ أَكُفَّهُمْ لِلسُّؤَالِ،