فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنْفِقَ بِإِنْفَاقِهِ عَلَى مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ يُخَفِّفُ عَنِ الْفُقَرَاءِ بِتَقْلِيلِ عَدَدِ الدَّاخِلِينَ فِيهِمْ، وَلِذَلِكَ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَإِنَّكَ لَا تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ»
. وَلِهَذَا أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِنْفَاقِ الْعَفْوِ، لِأَنَّهَا لِعُمُومِ الْمُنْفِقِينَ، فَلَا تَنَافِيَ أَنْ يُنْفِقَ أَحَدٌ مِنْ مَالِهِ الْمُحْتَاجِ هُوَ إِلَيْهِ أَوْ جَمِيعِ مَالِهِ إِذَا صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِ هُوَ نَفَقَتُهُ.
وَآل فِي الْعَفْوِ لِلْجِنْسِ الْمَعْرُوفِ لِلسَّامِعِينَ، وَالْعَفْوُ مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّشْكِيكِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ تَعْيِينَ مَا يَحْتَاجُهُ الْمُنْفِقُ وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ، وَجَعَلَ اللَّهُ الْعَفْوَ كُلَّهُ مُنْفَقًا تَرْغِيبًا فِي الْإِنْفَاقِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْفَاقِ هُنَا الْإِنْفَاقُ الْمُتَطَوَّعُ بِهِ، إِذْ قَدْ تَضَافَرَتْ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ وَانْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ إِنْفَاقٌ إِلَّا النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَإِلَّا الزَّكَوَاتِ وَهِيَ قَدْ تَكُونُ مِنْ بَعْضِ مَا يَفْضُلُ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الثَّرْوَةِ إِلَّا مَا شَذَّ بِهِ أَبُو ذَرٍّ، إِذْ كَانَ يَرَى كَنْزَ الْمَالِ حَرَامًا وَيُنَادِي بِهِ فِي الشَّامِ فَشَكَاهُ مُعَاوِيَةُ لِعُثْمَانَ فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِإِرْجَاعِهِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ إِسْكَانِهِ بِالرَّبَذَةِ بِطَلَبٍ مِنْهُ، وَقَدِ اجْتَهَدَ عُثْمَانُ لِيَسُدَّ بَابَ فِتْنَةٍ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ (الْ) فِي الْعَفْوِ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ وَهُوَ نَمَاءُ الْمَالِ الْمُقَدَّرِ بِالنِّصَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (قُلِ الْعَفْوَ) بِنَصْبِ الْعَفْوِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَاذَا يُنْفِقُونَ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِ ذَا بَعْدَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مُلْغَاةً فَتَكُونُ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَفْعُولا مقدما لينفقون فَنَاسَبَ أَنْ يَجِيءَ مُفَسِّرُ (مَا) فِي جَوَابِ السُّؤَالِ مَنْصُوبًا كَمُفَسَّرِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ الْعَفْوُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَعْلِ ذَا بَعْدَ مَا مَوْصُولَةً أَيْ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً كَانَتْ مُبْتَدَأً إِذْ لَا تَعْمَلُ فِيهَا صِلَتُهَا وَكَانَتْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ خَبَرًا عَنْ مَا الْمَوْصُولَةِ، وَكَانَ مُفَسَّرُهَا فِي الْجَوَابِ وَهُوَ الْعَفْوُ فَنَاسَبَ أَنْ يُجَاءَ بِهِ مَرْفُوعًا كَمُفَسِّرِهِ لِيُطَابِقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ فِي الِاعْتِبَارَيْنِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ اعْتِبَارٌ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، أَيْ كَذَلِكَ الْبَيَانُ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ، فَالْكَافُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute