الْجِمَاعَ لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِيهِ دُونَ قَرُبَ بِالضَّمِّ الْقَاصِرِ يُقَالُ قَرُبَ مِنْهُ بِمَعْنَى دَنَا وَقَرِبَهُ كَذَلِكَ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمُجَامَعَةِ، لِأَنَّ فِيهَا قُرْبًا وَلَكِنَّهُمْ غَلَّبُوا قَرِبَ الْمَكْسُورَ الْعَيْنِ فِيهَا دُونَ قَرُبَ الْمَضْمُومِ تَفْرِقَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا قَالُوا بَعُدَ إِذَا تَجَافَى مَكَانُهُ وَبَعِدَ كَمَعْنَى الْبُعْدِ الْمَعْنَوِيّ وَلذَلِك يَدْعُو بِلَا يَبْعَدْ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَطْهُرْنَ غَايَةٌ لِاعْتَزِلُوا وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ، وَالطُّهْرُ بِضَمِّ الطَّاءِ مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ النَّقَاءُ مِنَ الْوَسَخِ وَالْقَذَرِ وَفِعْلُهُ طَهُرَ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَحَقِيقَةُ الطُّهْرِ نَقَاءُ الذَّاتِ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ عَلَى النَّقَاءِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ طُهْرُ الْحَدَثِ الَّذِي يُقَدَّرُ حُصُولُهُ لِلْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ، وَيُقَالُ تَطَهَّرَ إِذَا اكْتَسَبَ الطَّهَارَةَ بِفِعْلِهِ حَقِيقَةً نَحْوَ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التَّوْبَة: ١٠٨] أَوْ مَجَازًا نَحْوَ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الْأَعْرَاف: ٨٢] ، وَيُقَالُ اطَّهَّرَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَهِيَ صِيغَةٌ تَطَهَّرَ وَقَعَ فِيهَا إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الطَّاءِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [الْمَائِدَة: ٦] وَصِيغَةُ التَّفَعُّلِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ مَعْنَى الْفِعْلِ وَلِذَلِكَ كَانَ إِطْلَاقُ بَعْضِهَا فِي مَوْضِعِ بَعْضٍ اسْتِعْمَالًا فَصِيحًا.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ حَتَّى يَطْهُرْنَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ يَطْهُرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ.
وَلَمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْمَحِيضَ أَذًى عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الطُّهْرَ هُنَا هُوَ النَّقَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْأَذَى فَإِنَّ وَصْفَ حَائِضٍ يُقَابَلُ بِطَاهِرٍ وَقَدْ سُمِّيَتِ الْأَقْرَاءُ أَطْهَارًا، وَقَدْ يُرَادُ بِالتَّطَهُّرِ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التَّوْبَة: ١٠٨] فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ فِي الْخَلَاءِ بِالْمَاءِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ أَفَادَ مَنْعَ الْقِرْبَانِ إِلَى حُصُولِ النَّقَاءِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ بِالْجُفُوفِ وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِذا تَطَهَّرْنَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرْطًا ثَانِيًا دَالًّا عَلَى لُزُومِ تَطَهُّرٍ آخَرَ وَهُوَ غَسْلُ ذَلِكَ الْأَذَى بِالْمَاءِ، لِأَنَّ صِيغَةَ تَطَهَّرَ تَدُلُّ عَلَى طَهَارَةٍ مُعْمَلَةٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ قَوْلُهُ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَأْتُوهُنَّ، وَعَلَى الِاحْتِمَال الثَّانِي جَاءَ قِرَاءَةُ حَتَّى يَطْهُرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الطُّهْرَ الْمُكْتَسَبَ وَهُوَ الطُّهْرُ بِالْغُسْلِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ مَعَ مَعْنَاهُ لَازِمُهُ أَيْضًا وَهُوَ النَّقَاءُ مِنَ الدَّمِ لِيَقَعَ الْغَسْلُ مَوْقِعَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَبِذَلِكَ كَانَ مَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا، وَقَدْ رَجَّحَ الْمُبَرِّدُ قِرَاءَةَ حَتَّى يَطَّهَّرْنَ بِالتَّشْدِيدِ قَالَ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ يُرَادُ بِهِمَا جَمِيعًا الْغَسْلُ وَهَذَا عَجِيبٌ صُدُورُهُ مِنْهُ فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْمَعْنَيَيْنِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَضَادٌّ أَوَّلِيٌّ لِتَكَوُنَ الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ مُفِيدَةً شَيْئًا جَدِيدًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute