وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ قَائِلًا: «لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقْرُبَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَنْهَا حَتَّى تَطْهُرَ» وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ وَلَا إِلَى تَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ بِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ كَافٍ فِي إِفَادَةِ الْمَنْعِ مِنْ قِرْبَانِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَطْهُرَ بِدَلِيلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ غَايَةَ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ هِيَ حُصُولُ الطُّهْرِ فَإِنْ حَمَلْنَا الطُّهْرَ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ فَهُوَ النَّقَاءُ مِنَ الدَّمِ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ التَّطَهُّرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، فَيَحْصُلَ مِنَ الْغَايَةِ وَالشَّرْطِ اشْتِرَاطُ النَّقَاءِ وَالْغُسْلِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَنَظَّرُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٦] وَإِنَّ حَمْلَ الطُّهْرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لَا سِيَّمَا عَلَى قِرَاءَةِ (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) حَصَلَ مِنْ مَفْهُومِ الْغَايَةِ وَمِنَ الشَّرْطِ الْمُؤَكَّدِ لَهُ اشْتِرَاطُ الْغُسْلِ بِالْمَاءِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ النَّقَاءِ عَادَةً، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْغُسْلِ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ فِي مُجْمَلِ الطُّهْرِ الشَّرْعِيِّ هُنَا فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ غَسْلُ مَحَلِّ الْأَذَى بِالْمَاءِ فَذَلِكَ يُحِلُّ قِرْبَانَهَا وَهَذَا الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ، لِأَنَّ
الطُّهْرَ الشَّرْعِيَّ يُطْلَقُ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَعَلَى رَفْعُ الْحَدَثِ، وَالْحَائِضُ اتَّصَفَتْ بِالْأَمْرَيْنِ، وَالَّذِي يَمْنَعُ زَوْجَهَا مِنْ قِرْبَانِهَا هُوَ الْأَذَى وَلَا عَلَاقَةَ لِلْقِرْبَانِ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَسْلَ ذَلِكَ الْأَذَى، وَإِنْ كَانَ الطُّهْرَانُ مُتَلَازِمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فَهُمَا غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْكِتَابِيَّةِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيٌّ هُوَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِأَكْمَلِ أَفْرَادِ هَذَا الِاسْمِ احْتِيَاطًا، أَوْ رَجَعُوا فِيهِ إِلَى عَمَلِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْمَظْنُونُ بِالْمُسْلِمَاتِ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُنَّ كُنَّ لَا يَتَرَيَّثْنَ فِي الْغُسْلِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُنَّ الصَّلَاةَ فَلَا دَلِيلَ فِي فِعْلِهِنَّ على عدم إِجْزَاء مَا دُونَهُ، وَذهب مُجَاهِد وطاووس وَعِكْرِمَةُ إِلَى أَنَّ الطُّهْرَ هُوَ وُضُوءٌ كَوُضُوءِ الصَّلَاةِ أَيْ مَعَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَهَذَا شَاذٌّ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا: إِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِأَقْصَى أَمَدِ الْحَيْضِ وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُمْ جَازَ قِرْبَانُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ أَيْ مَعَ غَسْلِ الْمَحَلِّ خَاصَّةً، وَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعَادَةِ الْمَرْأَةِ دُونَ أَقْصَى الْحَيْضِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَقْرَبَهَا زَوْجُهَا إِلَّا إِذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَادَتِهَا لَمْ يَحِلَّ قُرْبَانُهَا وَلَكِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي احْتِيَاطًا وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute