للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَعْلَمُ أَنَّ نِسَاءَهُمْ مَحَلُّ تَعَهُّدِهِمْ وَمُلَابَسَتِهِمْ لَيْسَ مَنْعُهُمْ مِنْهُنَّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِأَمْرٍ هَيِّنٍ عَلَيْهِمْ لَوْلَا إِرَادَةُ حِفْظِهِمْ مِنَ الْأَذَى، كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا حَمَى الْحِمَى «لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ» وَتُعْتَبَرُ جُمْلَةُ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ مُقَدِّمَةً لِجُمْلَةِ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْإِذْنِ بِإِتْيَانِهِنَّ أَنَّى شَاءُوا، وَالْعِلَّةُ قَدْ تُجْعَلُ مُقَدِّمَةً فَلَوْ أُوثِرَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لَأُخِّرَتْ عَنْ جُمْلَةِ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَلَكِنْ أُوثِرَ أَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلَّتِي بَعْدَهَا لِأَنَّهُ أَحْكَمُ نَسِيجٍ نُظِمَ وَلِتَتَأَتَّى عَقِبَهُ الْفَاءُ الْفَصِيحَةُ.

وَالْحَرْثُ مَصْدَرُ حَرَثَ الْأَرْضَ إِذَا شَقَّهَا بِآلَةٍ تَشُقُّ التُّرَابَ لِيُزْرَعَ فِي شُقُوقِهِ زَرِيعَةٌ أَوْ تُغْرَسَ أَشْجَارٌ. وَهُوَ هَنَا مُطْلَقٌ عَلَى مَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ.

وَإِطْلَاقُ الْحَرْثِ عَلَى الْمَحْرُوثِ وَأَنْوَاعِهِ إِطْلَاقٌ مُتَعَدِّدٌ فَيُطْلَقُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَجْعُولَةِ لِلزَّرْعِ أَوِ الْغَرْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: ١٣٨] أَيْ أَرْضُ زَرْعٍ مَحْجُورَةٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَزْرَعُوهَا.

وَقَالَ: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمرَان: ١٤] أَيِ الْجَنَّاتِ وَالْحَوَائِطِ والحقول.

وَقَالَ: مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ

[آل عمرَان:

١١٧] أَي فأهلكت زَرْعَهُمْ.

وَقَالَ: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [الْقَلَم: ٢٢] يَعْنُونَ بِهِ جَنَّتَهُمْ أَيْ صَارِمِينَ عَرَاجِينَ التَّمْرِ.

وَالْحَرْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْمَحْرُوثُ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرَ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو عَنْهُ، وَتَشْبِيهُ النِّسَاءِ بِالْحَرْثِ تَشْبِيهٌ لَطِيفٌ كَمَا شُبِّهَ النَّسْلُ بِالزَّرْعِ فِي قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ فِي خِطْبَتِهِ خَدِيجَةَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَزَرْعِ إِسْمَاعِيلَ» .

وَالْفَاءُ فِي فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فَاءٌ فَصِيحَةٌ لِابْتِنَاءِ مَا بَعْدَهَا عَلَى تَقَرُّرِ أَنَّ النِّسَاءَ حَرْثٌ لَهُمْ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا قَدْ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ.

وَكَلِمَةُ (أَنَّى) اسْمٌ لِمَكَانٍ مُبْهَمٍ تُبَيِّنُهُ جُمْلَةٌ مُضَافٌ هُوَ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ مَجَازًا فِي مَعْنَى كَيْفَ بِتَشْبِيهِ حَالِ الشَّيْءِ بِمَكَانِهِ، لِأَنَّ كَيْفَ اسْمٌ لِلْحَالِ الْمُبْهَمَةِ يُبَيِّنُهَا عَامِلُهَا نَحْوَ كَيْفَ