للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَشاءُ [آل عمرَان: ٦] وَقَالَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» : إِنَّ (أَنَّى) تَكُونُ بِمَعْنَى (مَتَى) ، وَقَدْ أُضِيفَ (أَنَّى) فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى جُمْلَةِ (شِئْتُمْ) وَالْمَشِيئَاتُ شَتَّى فَتَأَوَّلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى حَمْلِ (أَنَّى) عَلَى الْمَعْنى الْمجَازِي وَفَسرهُ بِكَيْفَ شِئْتُمْ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْجُمْهُورِ الَّذِي عَضَّدُوهُ بِمَا رَوَوْهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَفِيهَا رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَأَوَّلَهُ الضَّحَّاكُ عَلَى مَعْنَى مَتَى شِئْتُمْ وَتَأَوَّلَهُ جَمْعٌ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ مِنْ كَوْنِهِ اسْمَ مَكَانٍ مُبْهَمٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلُوهُ ظَرْفًا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْمَكَانِ إِذَا لَمْ يُصَرَّحُ فِيهَا بِمَا يَصْرِفُ عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَفَسَّرُوهُ بِمَعْنَى فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْمَرْأَةِ شِئْتُمْ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» تَفْسِيرًا مِنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلُوهُ اسْمَ مَكَانٍ غَيْرَ ظَرْفٍ وَقَدَّرُوا أَنَّهُ مَجْرُورٌ بِ (مِنْ) فَفَسَّرُوهُ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ شِئْتُمْ وَهُوَ يَئُولُ إِلَى تَفْسِيرِهِ بِمَعْنَى كَيْفَ، وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ إِلَى سِيبَوَيْهِ. فَالَّذِي يَتَبَادَرُ مِنْ مَوْقِعِ الْآيَةِ وَتُسَاعِدُ عَلَيْهِ مَعَانِي أَلْفَاظِهَا أَنَّهَا تَذْيِيلٌ وَارِدٌ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ قِرْبَانِ النِّسَاءِ فِي حَالِ الْحَيْضِ. فَتُحْمَلُ (أَنَّى) عَلَى مَعْنَى مَتَى وَيَكُونُ الْمَعْنَى فَأْتُوا نِسَاءَكُمْ مَتَى شِئْتُمْ إِذَا تَطَهَّرْنَ فَوِزَانُهَا وِزَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: ٢] .

وَلَا مُنَاسَبَةَ تَبْعَثُ لِصَرْفِ الْآيَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ مَا طَارَ بَيْنَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمَنْ

بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي مَحَامِلَ أُخْرَى لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا رَوَوْهُ مِنْ آثَارٍ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ يَضْطَرُّنَا إِلَى اسْتِفْصَالِ الْبَيَانِ فِي مُخْتَلَفِ الْأَقْوَالِ وَالْمَحَامِلِ مُقْتَنِعِينَ بِذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي مَعَانِي الْآيَةِ، وَإِنَّهَا لَمَسْأَلَةٌ جَدِيرَةٌ بِالِاهْتِمَامِ، عَلَى ثِقَلٍ فِي جَرَيَانِهَا، عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَالْأَقْلَامِ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسلم فِي «صَحِيحهمَا» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مُجْبِيَةً جَاءَ الْوَلَدُ أُحْوَلَ، فَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الْآيَةَ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَكَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَلَّا يَأْتُوا النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ وَذَلِكَ أَسْتَرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، فَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ