فَالشَّأْنُ أَوْ فَالْأَمْرُ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ عَلَى طَرِيقَةِ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: ١٨] وَإِذْ قَدْ كَانَ الْإِمْسَاكُ وَالتَّسْرِيحُ مُمْكِنَيْنِ عِنْدَ كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ مَرَّتَيِ الطَّلَاقِ، كَانَ الْمَعْنَى فَإِمْسَاكٌ أَوْ تَسْرِيحٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنَ الْمَرَّتَيْنِ، أَيْ شَأْنُ الطَّلَاقِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مَرَّةٍ مِنْهُ مُعَقَّبَةً بِإِرْجَاعٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَرْكٍ بِإِحْسَانٍ، أَيْ دُونَ ضِرَارٍ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ. وَعَلَيْهِ فَإِمْسَاكٌ وَتَسْرِيحٌ مَصْدَرَانِ، مُرَادٌ مِنْهُمَا الْحَقِيقَةُ وَالِاسْمُ، دُونَ إِرَادَةِ نِيَابَةٍ عَنِ الْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ رَاغِبًا فِي امْرَأَتِهِ فَشَأْنُهُ إِمْسَاكُهَا أَيْ مُرَاجَعَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاغِبًا فِيهَا فَشَأْنُهُ تَرْكُ مُرَاجَعَتِهَا فَتُسَرَّحُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِدْمَاجُ الْوِصَايَةُ بِالْإِحْسَانِ فِي حَالِ الْمُرَاجَعَةِ، وَفِي حَالِ تَرْكِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، إِبْطَالًا لِأَفْعَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا قَدْ يُرَاجِعُونَ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ ثُمَّ يُطَلِّقُونَهَا دَوَالَيْكَ، لِتَبْقَى زَمَنًا طَوِيلًا فِي حَالَةِ تَرْكٍ إِضْرَارًا بِهَا، إِذْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ مُنْتَهِيًا إِلَى عَدَدٍ لَا يَمْلِكُ بَعْدَهُ الْمُرَاجَعَةَ، وَفِي هَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الْآيَةَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِمْسَاكٌ وَتَسْرِيحٌ مَصْدَرَيْنِ جُعِلَا بَدَلَيْنِ مِنْ فِعْلَيْهِمَا، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَأَصْلُهُمَا النَّصْبُ، ثُمَّ عَدَلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الدَّوَامِ، كَمَا عَدَلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَلامٌ [هود:
٦٩] وَقَدْ مَضَى أَوَّلَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَيَكُونُ مُفِيدًا مَعْنَى الْأَمْرِ بِالنِّيَابَةِ عَنْ فِعْلِهِ، وَمُفِيدًا الدَّوَامَ بِإِيرَادِ الْمَصْدَرَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ فَأَمْسِكُوا أَوْ سَرِّحُوا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ حُدِّدَ بِمَرَّتَيْنِ، قَابِلَةٌ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْإِمْسَاكِ بَعْدَهَا، وَالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ تَوْسِعَةً على النَّاس ليرتأوا بَعْدَ الطَّلَاقِ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ وَحَالِ نِسَائِهِمْ، فَلَعَلَّهُمْ تَعْرِضُ لَهُمْ نَدَامَةٌ بَعْدَ ذَوْقِ الْفِرَاقِ وَيُحِسُّوا مَا قَدْ يَغْفُلُونَ عَنْ عَوَاقِبِهِ حِينَ إِنْشَاءِ الطَّلَاقِ، عَنْ غَضَبٍ أَوْ عَنْ مَلَالَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: ١] وَقَوْلَهُ: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً [الْبَقَرَة: ٢٣١] وَلَيْسَ ذَلِكَ لِيَتَّخِذُوهُ ذَرِيعَةً لِلْإِضْرَارِ بِالنِّسَاءِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ هُوَ الْإِمْسَاكُ أَوِ التَّسْرِيحُ الْمُطْلَقَيْنِ وَأَمَّا تَقْيِيدُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِوَصِيَّةٍ أُخْرَى فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ، إِدْمَاجًا لِلْإِرْشَادِ فِي أَثْنَاءِ التَّشْرِيعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute