عَنِ الثَّالِثَةِ، يَقْتَضِي أَنَّ نِهَايَةَ الثَّلَاثِ كَانَتْ حُكْمًا مَعْرُوفًا إِمَّا مِنَ السُّنَّةِ وَإِمَّا مِنْ بَقِيَّةِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْ وَجْهِ قَوْلِهِ (مَرَّتَانِ) وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ حُكْمِ جِنْسِ الطَّلَاقِ، بِاعْتِبَارِ حُصُولِهِ مِنْ فَاعِلِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْأَزْوَاجِ كَانَ لفظ الطَّلَاق آئلا إِلَى مَعْنَى التَّطْلِيق، كَمَا يؤول السَّلَامُ إِلَى مَعْنَى التَّسْلِيمِ.
وَقَوْلُهُ مَرَّتانِ، تَثْنِيَةُ مَرَّةٍ، وَالْمَرَّةُ فِي كَلَامِهِمُ الْفِعْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ مَوْصُوفِهَا أَوْ مُضَافِهَا، فَهِيَ لَا تَقَعُ إِلَّا جَارِيَةً عَلَى حَدَثٍ، بِوَصْفٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ بِإِضَافَةٍ وَنَحْوِهَا، وَتَقَعُ مُفْرَدَةً، وَمُثَنَّاةً، وَمَجْمُوعَةً، فَتَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكَرُّرِ الْفِعْلِ، أَوْ تَكَرُّرِ فِعْلِهِ تَكَرُّرًا وَاحِدًا، أَوْ تَكَرُّرِهِ تَكَرُّرًا مُتَعَدِّدًا، قَالَ تَعَالَى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التَّوْبَة: ١٠١] وَتَقُولُ الْعَرَبُ «نَهَيْتُكَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ تَنْتَهِ» أَيْ مِرَارًا، وَلَيْسَ لَفْظُ الْمَرَّةِ بِمَعْنَى الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْأَعْيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَعْطَيْتُكَ دِرْهَمًا مَرَّتَيْنِ، إِذَا أَعْطَيْتَهُ دِرْهَمًا ثُمَّ دِرْهَمًا، فَلَا يُفْهَمُ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ دِرْهَمَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ أَعْطَيْتُكَ دِرْهَمَيْنِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ يُفِيدُ أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ شُرِعَ فِيهِ حَقُّ التَّكْرِيرِ إِلَى حَدِّ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً عَقِبَ مَرَّةٍ أُخْرَى لَا غَيْرُ، فَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ فِي فَهْمِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّ الْمُرَادَ:
الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إِلَّا طَلْقَتَيْنِ مُقْتَرِنَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ، وَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ فَاحْتَاجَ إِلَى تَأْوِيلٍ لِدَفْعِهِ فَقَدْ أَبْعَدَ عَنْ مَجَارِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ، وَلَقَدْ أَكْثَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَعَاطِي التَّفْسِيرِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالتَّفْرِيعَ عَلَيْهَا، مَدْفُوعِينَ بِأَفْهَامٍ مُوَلِّدَةٍ، ثُمَّ طَبَّقُوهَا عَلَى طَرَائِقَ جَدَلِيَّةٍ فِي الِاحْتِجَاجِ لِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي إِثْبَاتِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ أَوْ نَفْيِهِ، وَهُمْ فِي إِرْخَائِهِمْ طِوَلَ الْقَوْلِ نَاكِبُونَ عَنْ مَعَانِي الِاسْتِعْمَالِ، وَمِنَ الْمُحَقِّقِينَ مَنْ لَمْ يَفُتْهُ الْمَعْنَى وَلَمْ تَفِ بِهِ عِبَارَتُهُ كَمَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُ الطَّلَاقِ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] فَيَكُونُ كَالْعَهْدِ فِي تَعْرِيفِ الذَّكَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [آل عمرَان: ٣٦] فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ مِمَّا اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي [آل عمرَان: ٣٥] .
وَقَوْلُهُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ جُمْلَةٌ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَيَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فِي مُجَرَّدِ الذِّكْرِ، لَا فِي وجود الحكم. و (إمْسَاك) خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute