وَقَوْلُهُ فَإِنْ طَلَّقَها وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ لِأَنَّ مِنْ إِحْسَانِ التَّسْرِيحِ أَلَّا يَأْخُذَ الْمُسَرِّحُ وَهُوَ الْمُطَلِّقُ عِوَضًا عَنِ الطَّلَاقِ، وَهَذِهِ مُنَاسِبَةُ مَجِيءِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَهُوَ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي جَمْعِ التَّشْرِيعَاتِ وَالْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ، لِيَأْخُذَ مِنْهُ كُلُّ أَفْرَادِهَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ، فَالزَّوْجُ يَقِفُ عَنْ أَخْذِ الْمَالِ، وَوَلِيُّ الْأَمْرِ يَحْكُمُ بِعَدَمِ لُزُومِهِ، وَوَلِيُّ الزَّوْجَةِ أَوْ كَبِيرُ قَبِيلَةِ الزَّوْجِ يَسْعَى وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى (وَقَدْ كَانَ شَأْنُ الْعَرَبِ أَنْ يَلِيَ هَذِهِ الْأُمُورَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْ قَرَابَةِ الْجَانِبَيْنِ) وَبَقِيَّةُ الْأُمَّةِ تَأْمُرُ بِالِامْتِثَالِ لِذَلِكَ، وَهَذَا شَأْنُ خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ فِي التَّشْرِيعِ كَقَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إِلَى قَوْلِهِ: وَارْزُقُوهُمْ فِيها [النِّسَاء: ٥] وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» .
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ لِلْأَزْوَاجِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أَنْ تَأْخُذُوا وَقَوْلِهِ: آتَيْتُمُوهُنَّ وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ لِلْحُكَّامِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْأَزْوَاجِ لَقِيلَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقِيمُوا أَوْ أَلَّا تُقِيمَا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَنَحْوُ ذَلِكَ غَيْرُ عَزِيزٍ فِي الْقُرْآنِ» اهـ يَعْنِي لِظُهُورِ مَرْجِعِ كُلِّ ضَمِيرٍ مِنْ قَرَائِنِ الْمَقَامِ وَنَظَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ [١٣] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، إِذْ جَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى آمِنُوا وَجَاهِدُوا أَيْ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْخِطَابَاتِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ التَّبْشِيرُ خَاصًّا بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْهُ. وَأَظْهَرُ مِنْ تنظير صَاحب «الْكَشَّاف» أَنْ تُنَظِّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [الْبَقَرَة:
٢٣٢] إِذْ خُوطِبَ فِيهِ الْمُطَلِّقُ وَالْعَاضِلُ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي آتَيْتُمُوهُنَّ رَاجِعٌ إِلَى الْمُطَلَّقاتُ، الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ لِأَنَّ الْجِنْسَ يَقْتَضِي عَدَدًا مِنَ الْمُطَلِّقِينَ وَالْمُطَلَّقَاتِ، وَجَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ»
أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ كُلُّهُ لِلْحُكَّامِ وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ: أَنْ تَأْخُذُوا. وَقَوْلَهُ: مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ بِأَنَّ إِسْنَادَ الْأَخْذِ وَالْإِتْيَانِ لِلْحُكَّامِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، وَرَجَّحَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِسَلَامَتِهِ مِنْ تَشْوِيشِ الضَّمَائِرِ بِدُونِ نُكْتَةِ الْتِفَاتٍ وَوَهَّنَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْخُلْعَ قَدْ يَقَعُ بِدُونِ تَرَافُعٍ، فَمَا آتَاهُ الْأَزْوَاجُ لِأَزْوَاجِهِمْ مِنَ الْمُهُورِ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ على يَد الْحُكَّام فَبَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ، وَمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَا يَجُوزُ وَلَا يُسْمَحُ بِهِ، وَاسْتِعْمَالُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَضِدِّهِ قَدِيمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
يَا شَاةُ مَا قَنَصٌ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute