بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي النَّهْيِ، إِذا كَانَ لخارج عَنْ مَاهِيَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ: لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ النُّشُوزِ وَالشِّقَاقِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنِ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا خِيفَ فَسَادُ الْمُعَاشَرَةِ بِأَلَّا تُحِبَّ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَكَّدَ هَذَا الْحُكْمَ إِذْ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ لِأَنَّ مَفْهُومَ الِاسْتِثْنَاءِ قَرِيبٌ مِنَ الصَّرِيحِ فِي أَنَّهُمَا إِنْ لَمْ يَخَافَا ذَلِكَ لَا يَحِلُّ الْخُلْعُ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُمَا إِنْ لَمْ يَخَافَا ذَلِكَ ثَبَتَ الْجُنَاحُ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها ثُمَّ بِالْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ جَمِيلَةَ بِنْتِ أَوْ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بن سَلُولَ، وَبَيْنَ زَوْجِهَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إِذْ قَالَتْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ، أَوْ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسُ ثَابِتٍ شَيْءٌ، وَاللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا
فَقَالَ لَهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصَدَقَكِ» قَالَتْ «نَعَمْ وَأَزِيدُهُ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: «أَمَّا الزَّائِدُ فَلَا»
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَذْكُرْ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ بَلْ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْخُلْعِ، أَلَا يَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: ٤] هَكَذَا أَجَابَ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا فِي «أَحْكَامِ ابْن الْعَرَبِيّ» ، و «تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» . وَعِنْدِي أَنَّهُ جَوَابٌ بَاطِلٌ، وَمُتَمَسِّكٌ بِلَا طَائِلٍ، أَمَّا إِنْكَارُ كَوْنِ الْوَارِدِ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ شَرْطًا، فَهُوَ تَعَسُّفٌ وَصَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ وَجْهِهِ، كَيْفَ وَقَدْ دَلَّ بِثَلَاثَةِ مَنْطُوقَاتٍ وَبِمَفْهُومَيْنِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً فَهَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا يَحِلُّ أَخْذُ أَقَلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا فَفِيهِ مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَفِيهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَفْهُومَ الَّذِي يَجِيءُ مَجِيءَ الْغَالِبِ هُوَ مَفْهُومُ الْقُيُودِ التَّوَابِعِ كَالصِّفَةِ وَالْحَالِ وَالْغَايَةِ، دُونَ مَا لَا يَقَعُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا لِقَصْدِ الِاحْتِرَازِ،
كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ. وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ لِلْجَوَازِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً، فَمَوْرِدُهُ فِي عَفْوِ الْمَرْأَةِ عَنْ بَعْضِ الصَّدَاقِ، فَإِنَّ ضَمِيرَ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ [النِّسَاء: ٤] الْآيَةَ فَهُوَ إِرْشَادٌ لِمَا يَعْرِضُ فِي حَالِ الْعِصْمَةِ مِمَّا يَزِيدُ الْأُلْفَةَ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلَوْ سَلَّمْنَا التَّعَارُضَ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ سُلُوكُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَوِ التَّرْجِيحُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute