للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ عَلَيْهِمَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَاذِلَ الْحَرَامِ لِآخِذِهِ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْإِثْمِ،

وَفِي حَدِيثِ رِبَا الْفَضْلِ «الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ»

، وَضَمِيرُ افْتَدَتْ بِهِ لِجِنْسِ الْمُخَالَعَةِ، وَقَدْ تَمَحَّضَ الْمَقَامُ لِأَنْ يُعَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا خَاصَّةً لِأَنَّ دَفْعَ الْمَالِ مِنْهَا فَقَطْ. وَظَاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ حِينَئِذٍ الْخُلْعُ بِمَا زَادَ عَلَى الْمَهْرِ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ.

وَلَمْ يَخْتَلِفْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى الْفِرَاقِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْفِرَاقِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَائِنًا إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَائِنًا لَمَا ظَهَرَتِ الْفَائِدَةُ فِي بَذْلِ الْعِوَضِ، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَمَكْحُولٌ.

وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ، وَعَلَيْهِ ابْن عَبَّاس وطاووس وَعِكْرِمَةُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.

وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَرَّةً هُوَ طَلَاقٌ وَقَالَ مَرَّةً لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَبَعْضُهُمْ يَحْكِي عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ إِلَّا أَن يَنْوِي بالمخالفة الطَّلَاقَ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ طَلَاقٌ لِتَقَرُّرِ عِصْمَةٍ صَحِيحَةٍ، فَإِنْ أَرَادُوا بِالْفَسْخِ مَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ الْعِصْمَةِ الْأُولَى فَمَا الطَّلَاقُ كُلُّهُ إِلَّا رَاجِعًا إِلَى الْفُسُوخِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِي الْخُلْعِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَ الرَّجُلُ طَلْقَتَيْنِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ طَلْقَةُ الْخُلْعِ ثَالِثَةٌ فَلَا تَحِلُّ لِمُخَالِعِهَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: لَا تُعَدُّ طَلْقَةً، وَلَهُمَا أَنْ يَعْقِدَا نِكَاحًا مُسْتَأْنَفًا.

وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَزِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ،

فَقَالُوا: لَا يَكُونُ الْخُلْعُ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ إِجْرَاءِ الْخُلْعِ بِدُونِ تَخَاصُمٍ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لَيْسَ صَرِيحًا لِلْحُكَّامِ وَقد صَحَّ من عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ رَأَوْا جَوَازَهُ بِدُونِ حُكْمِ حَاكِمٍ.

وَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى الطَّلَاقِ إِنْ طَابَتْ بِهِ نَفْسُ الْمَرْأَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْ إِضْرَارٍ بِهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَنْ إِضْرَارٍ بِهِنَّ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ إِذَا ثَبَتَ الْإِضْرَارُ يَمْضِي الطَّلَاقُ، وَيُرَدُّ عَلَيْهَا مَالُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مَاضٍ وَلَكِنَّهُ يَأْثَمُ