للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ حُكْمًا بِمَنْطُوقِهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الْبِنَاءِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّ لَهَا نِصْفَ صَدَاقِ أَمْثَالِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنْ لَيْسَ لَهَا إِلَّا الْمُتْعَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا كَمَا سَيَأْتِي. وَهَذَا الْحُكْمُ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدِ اعْتَبَرَتِ النِّكَاحَ عَقْدًا لَازِمًا بِالْقَوْلِ، وَاعْتَبَرَتِ الْمَهْرَ الَّذِي هُوَ من متمماته غَيْرَ لَازِمٍ بِمُجَرَّدِ صِيغَةِ النِّكَاحِ، بَلْ يَلْزَمُ بِوَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ إِمَّا بِصِيغَةٍ تَخُصُّهُ، وَهِيَ تَعْيِينُ مِقْدَارِهِ بِالْقَوْلِ، وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْفِقْهِ بِنِكَاحِ التَّسْمِيَةِ، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ وَهُوَ الشُّرُوعُ فِي اجْتِنَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ ابْتِدَاءً مِنَ النِّكَاحِ وَهِيَ الْمَسِيسُ، فَالْمَهْرُ إِذَنْ مِنْ تَوَابِعِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِ

مَتْبُوعِهَا، بَلْ تَحْتَاجُ إِلَى مُوجِبٍ آخَرَ كَالْحَوْزِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالنَّفْسُ لِقَوْلِ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَمْيَلُ.

وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَصْلِ الطَّلَاقِ، لَمَّا أَشْعَرَتْ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ عَنِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَحَيْثُ أَشْعَرَتْ بِإِبَاحَةِ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ: بِالتَّصَدِّي لِبَيَانِ أَحْكَامِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا مَوْضِعٌ هُوَ أَنْسَبُ بِذِكْرِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَنَحْنُ نَبْسُطُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ:

إِنَّ الْقَانُونَ الْعَامَّ لِانْتِظَامِ الْمُعَاشَرَةِ هُوَ الْوِفَاقُ فِي الطَّبَائِعِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَمْيَالِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْمُعَاشَرَةَ نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا مُعَاشَرَةٌ حَاصِلَةٌ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ مُعَاشَرَةُ النَّسَبِ، الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بِحَسَبِ شِدَّةِ قُرْبِ النّسَب وَبعده كمعاشرة الْآبَاءِ مَعَ الْأَبْنَاءِ، وَالْإِخْوَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَأَبْنَاءِ الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، وَاخْتِلَافُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ يَسْتَتْبِعُ اخْتِلَافَهَا فِي اسْتِغْرَاقِ الْأَزْمَانِ، فَنَجِدُ فِي قِصَرِ زَمَنِ الْمُعَاشَرَةِ، عِنْدَ ضَعْفِ الْآصِرَةِ، مَا فِيهِ دَافِعٌ لِلسَّآمَةِ وَالتَّخَالُفِ النَّاشِئَيْنِ عَمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَى الْمُتَعَاشِرِينَ مِنْ تَنَافُرٍ فِي الْأَهْوَاءِ وَالْأَمْيَالِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي مِقْدَارِ قُرْبِ النَّسَبِ تَأْثِيرًا فِي مِقْدَارِ الْمُلَاءَمَةِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ قُرْبِ النَّسِيبِ، يَكُونُ الْتِئَامُ الذَّاتِ مَعَ الْأُخْرَى أَقْوَى وَأَتَمَّ، وَتَكُونُ الْمُحَاكَّةُ وَالْمُمَارَسَةُ وَالتَّقَارُبُ أَطْوَلَ، فَنَشَأَ مِنَ السَّبَبَيْنِ الْجِبِلِّيِّ، وَالِاصْطِحَابِيِّ، مَا يُقَوِّي اتِّحَادَ النُّفُوسِ فِي الْأَهْوَاءِ وَالْأَمْيَالِ بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ، وَحُكْمِ التَّعَوُّدِ وَالْإِلْفِ، وَهَكَذَا يَذْهَبُ ذَلِكَ السَّبَبَانِ يَتَبَاعَدَانِ بِمِقْدَارِ مَا يَتَبَاعَدُ النَّسِيبُ.

النَّوْع الثَّانِي: مُعَاشَرَةٌ بِحُكْمِ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ مُعَاشَرَةُ الصُّحْبَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ، وَمَا هِيَ إِلَّا مُعَاشَرَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَطُولُ أَوْ تَقْصُرُ، وَتَسْتَمِرُّ أَوْ تَغِبُ، بِحَسَبِ قُوَّةِ الدَّاعِي