أُلُوهِيَّةً تَامَّةً، بَلْ قَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] ، فَأَكَّدَ هَذَا الْمَدْلُولَ بِالصَّرِيحِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَمَّا قَبْلَهَا.
وذَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مُشَارٌ إِلَيْهِ مُعَيَّنٌ، وَالْعَرَبُ تَزِيدُ (ذَا) لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِنْ وُجُودِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِفْهَامِ، حَتَّى إِذا أظهر عَدَمُ وُجُودِهِ كَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ مُتَطَلِّعٍ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لِادِّعَاءِ هَذَا الْحُكْمِ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي (مَنْ ذَا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: ٢٤٥] . وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَالشَّفَاعَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: ٥٤] .
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِحَقٍّ وَإِدْلَالٍ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مِلْكُهُ، وَلَكِنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ مَنْ أَرَادَ هُوَ أَنْ يُظْهِرَ كَرَامَتَهُ عِنْدَهُ فَيَأْذَنَهُ بِأَنْ يَشْفَعَ فِيمَنْ أَرَادَ هُوَ الْعَفْوَ عَنْهُ، كَمَا يُسْنَدُ إِلَى الْكُبَرَاءِ مُنَاوَلَةُ الْمَكْرُمَاتِ إِلَى نُبَغَاءِ التَّلَامِذَةِ فِي مَوَاكِبِ الِامْتِحَانِ، وَلِذَلِكَ
جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ النَّاسُ لِيُكَلِّمَ رَبَّهُ فَيُخَفِّفَ عَنْهُمْ هَوْلَ مَوْقِفِ
الْحِسَابِ، فَيَأْتِي حَتَّى يَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَيَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا، فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَسُجُودُهُ اسْتِيذَانٌ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يَشْفَعُ حَتَّى يُقَالَ اشْفَعْ، وَتَعْلِيمُهُ الْكَلِمَاتِ مُقَدَّمَةٌ لِلْإِذْنِ.
وَجُمْلَةُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ تَقْرِيرٌ وَتَكْمِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مَجْمُوعُ جُمْلَتَيْ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وَلِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ جُمْلَتَيْ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ دَلَّتَا عَلَى عُمُومِ عِلْمِهِ بِمَا حَدَثَ وَوُجِدَ مِنَ الْأَكْوَانِ وَلَمْ تَدُلَّا عَلَى عِلْمِهِ بِمَا سَيَكُونُ فَأَكَّدَ وَكَمَّلَ بِقَوْلِهِ يَعْلَمُ الْآيَةَ، وَهِيَ أَيْضًا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِذْ قَدْ يتّجه سُؤال لماذَا حُرِمُوا الشَّفَاعَةَ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ فَقِيلَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَنْ يَسْتَحِقُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute