للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشَّفَاعَةَ وَرُبَّمَا غَرَّتْهُمُ الظَّوَاهِر، وَالله يعْمل مَنْ يَسْتَحِقُّهَا فَهُوَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلِأَجْلِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَمَّا قَبْلَهَا.

وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مَا هُوَ مُلَاحَظٌ لَهُمْ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَمَا خَفِيَ عَنْهُمْ أَوْ ذُهِلُوا عَنْهُ مِنْهَا، أَوْ مَا هُوَ وَاقِعٌ بَعْدَهُمْ وَمَا وَقَعَ قَبْلَهُمْ. وَأَمَّا عِلْمُهُ بِمَا فِي زَمَانِهِمْ فَأَحْرَى. وَقِيلَ الْمُسْتَقْبَلُ هُوَ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْمَاضِي هُوَ الْخَلْفُ، وَقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُمَا اسْتِعْمَالَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ فِي تَمْثِيلِ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْخَلْفِ، لِأَنَّ مَا بَيْنَ أَيْدِي الْمَرْءِ هُوَ أَمَامُهُ، فَهُوَ يَسْتَقْبِلُهُ وَيُشَاهِدُهُ وَيَسْعَى لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَمَا خَلْفَهُ هُوَ مَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَهُوَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ وَانْقَطَعَ وَلَا يُشَاهِدُهُ، وَقَدْ تَجَاوَزَهُ وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ بَعْدُ وَقِيلَ أُمُورُ الدُّنْيَا وَأُمُورُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ فَرْعٌ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ المحسوسات والمعقولات.

وأياما كَانَ فَاللَّفْظُ مَجَازٌ، وَالْمَقْصُودُ عُمُومُ الْعِلْمِ بِسَائِرِ الْكَائِنَاتِ.

وَضَمِيرُ أَيْدِيهِمْ وخَلْفَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بِتَغْلِيبِ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مَا يَشْمَلُ أَحْوَالَ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، أَوْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى خُصُوصِ الْعُقَلَاءِ مِنْ عُمُومِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مَا يَخْتَصُّ بِأَحْوَالِ الْبَشَرِ- وَهُوَ الْبَعْضُ، لِضَمِيرِ وَلَا يُحِيطُونَ- لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ أَحْوَالِ الْعُقَلَاءِ.

وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى جُمْلَةِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِأَنَّهَا تَكْمِلَةٌ لِمَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٦] .

وَمَعْنَى يُحِيطُونَ يَعْلَمُونَ عِلْمًا تَامًّا، وَهُوَ مُجَازٌ حَقِيقَتُهُ أَنَّ الْإِحَاطَةَ بِالشَّيْءِ تَقْتَضِي

الِاحْتِوَاءَ عَلَى جَمِيعِ أَطْرَافِهِ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهُ شَيْء من أَوَّلِهِ وَلَا آخِرِهِ، فَالْمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ- عِلْمَ الْيَقِينِ- شَيْئًا مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، وَأَمَّا مَا يَدَّعُونَهُ فَهُوَ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ. فَالْعِلْمُ فِي قَوْلِهِ:

مِنْ عِلْمِهِ بِمَعْنى الْمَعْلُوم، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ تَخْصِيصٌ لَهُ بِالْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهَا وَلَمْ يُنَصِّبِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً أَوْ عَادِيَّةً. وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: إِلَّا بِما شاءَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ يُطْلِعُ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ خَوَاصِّ عِلْمِهِ كَقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: ٢٦، ٢٧] .