وَهَذَا أَحْسَنُ وَأَدَقُّ مِنْ أَنْ نَجْعَلَ الْمَعْنَى تَمْثِيلَ إِنْفَاقِ الْكَافِرِ بِحَالِ تُرَابٍ عَلَى صَفْوَانٍ أَصَابَهُ وَابِلٌ فَجَرَفَهُ، وَأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ هُوَ سُرْعَةُ الزَّوَالِ وَعَدَمُ الْقَرَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ
[إِبْرَاهِيم: ١٨] فَإِنَّ مَوْرِدَ تِلْكَ الْآيَةِ مَقَامٌ آخَرُ.
وَلَكَ (١) أَنْ تَجْعَلَ كَافَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي لَفْظِ صَدَقَاتِهِمْ مِنْ مَعْنَى الْإِنْفَاقِ وَحُذِفَ مُضَافٌ بَيْنَ الْكَافِ وَبَيْنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ، وَالتَّقْدِيرُ إِنْفَاقًا كَإِنْفَاقِ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ.
وَقَدْ رُوعِيَ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ عَكْسُ التَّمْثِيلِ لِمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِحَبَّةٍ أَغَلَّتْ سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ.
فَالتَّشْبِيهُ تَشْبِيهُ مُرَكَّبٍ مَعْقُولٍ بِمُرَكَّبٍ مَحْسُوسٍ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْأَمَلُ فِي حَالَةٍ تَغُرُّ بِالنَّفْعِ ثُمَّ لَا تَلْبَثُ أَلَّا تَأْتِيَ لِآمِلِهَا بِمَا أَمَّلَهُ فَخَابَ أَمَلُهُ. ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْلُونَ مِنْ رَجَاءِ حُصُولِ الثَّوَابِ لَهُمْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ، وَيَكْثُرُ أَنْ تَعْرِضَ الْغَفْلَةُ لِلْمُتَصَدِّقِ فَيُتْبِعُ صَدَقَتَهُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى انْدِفَاعًا مَعَ خَوَاطِرَ خَبِيثَةٍ.
وَقَوْلُهُ: لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أُوقِعَ مَوْقِعًا بَدِيعًا مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ تَنْهَالُ بِهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فَهُوَ بِمَوْقِعِهِ كَانَ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ
فَيَكُونَ مُنْدَرِجًا فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَإِجْرَاءُ ضَمِيرِ كَسَبُوا ضَمِيرَ جَمْعٍ لِتَأْوِيلِ الَّذِي يُنْفِقُ بِالْجَمَاعَةِ، وَصَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مَثَلِ صَفْوَانٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَثَلٌ عَلَى نَحْوِ مَا جُوِّزَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: ١٩] إِذْ تَقْدِيرُهُ فِيهِ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ فَلِذَلِكَ جَاءَ ضَمِيرُهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ رَعْيًا لِلْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمُعَادِ مُفْرَدًا، وَصَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ اسْتِينَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ مَغَبَّةِ أَمْرِ الْمُشَبَّهِ، وَصَالِحًا لِأَنْ يُجْعَلَ تَذْيِيلًا وَفَذْلَكَةً لِضَرْبِ الْمَثَلِ فَهُوَ عَوْدٌ عَنْ بَدْءِ قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: ٢٦٤] إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ.
(١) هَذَا مُقَابل قَوْلنَا فِي الصفحة السَّابِقَة «هُوَ حَال من ضمير تُبْطِلُوا» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute