وَقَوْلُهُ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ الْكَافُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُبْطِلُوا، أَيْ لَا تَكُونُوا فِي إِتْبَاعِ صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَهُوَ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِنَّمَا يُعْطِي لِيَرَاهُ النَّاسُ وَذَلِكَ عَطَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
فَالْمَوْصُولُ مِنْ قَوْلِهِ: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ مُرَادٌ بِهِ جِنْسٌ وَلَيْسَ مُرَاد بِهِ جنس وَلَيْسَ مُرَادٌ بِهِ مُعَيَّنًا وَلَا وَاحِدًا، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ تَفْظِيعُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالرِّئَاءُ- بِهَمْزَتَيْنِ- فِعَالٌ مِنْ رَأَى، وَهُوَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ إِظْهَارِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ لِلنَّاسِ، فَصِيغَةُ الْفِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ، وَأُولَى الْهَمْزَتَيْنِ أَصْلِيَّةٌ وَالْأَخِيرَةُ مُبْدَلَةٌ عَنِ الْيَاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ الزَّائِدَةِ، وَيُقَالُ رِيَاءٌ- بِيَاءٍ بَعْدَ الرَّاءِ- عَلَى إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً بَعْدَ الْكَسْرَةِ.
وَالْمَعْنَى تَشْبِيهُ بَعْضِ الْمُتَصَدِّقِينَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَصَدَّقُونَ طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَيُعْقِبُونَ صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، بِالْمُنْفِقِينَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنْ إِنْفَاقِهَا إِلَّا الرِّئَاءَ وَالْمِدْحَةَ- إِذْ هُمْ لَا يَتَطَلَّبُونَ أَجْرَ الْآخِرَةِ-.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ مِمَّا أَعْطَوْا بِأَزْيَدَ مِنْ شِفَاءِ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ حُبِّ التَّطَاوُلِ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَشِفَاءِ خُلُقِ الْأَذَى الْمُتَطَبِّعِينَ عَلَيْهِ دُونَ نَفْعٍ فِي الْآخِرَةِ.
وَمُثِّلَ حَالَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ- تَمْثِيلًا يَسْرِي إِلَى الَّذِينَ يُتْبِعُونَ صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى بِقَوْلِهِ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ إِلَخ- وَضَمِيرُ مَثَلُهُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِي يُنْفِقُ مَاله رئاء للنَّاس، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ كَانَ لَا مَحَالَةَ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُشَبَّهِ، فَفِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةُ تَشْبِيهَاتٍ.
مَثَّلَ حَالَ الْكَافِرِ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ بِحَالِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ يُغَشِّيهِ، يَعْنِي يَخَالُهُ النَّاظِرُ تُرْبَةً كَرِيمَةً صَالِحَةً لِلْبَذْرِ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تُرَابٌ صَالِحٌ لِلزَّرْعِ فَحُذِفَتْ صِفَةُ التُّرَابِ إِيجَازًا اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ التُّرَابَ الَّذِي يَرْقُبُ النَّاسُ أَنْ يُصِيبَهُ الْوَابِلُ هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَبْذُرُونَ فِيهِ، فَإِذَا زَرَعَهُ الزَّارِعُ وَأَصَابَهُ وَابِلٌ وَطَمِعَ الزَّارِعُ فِي زَكَاءِ زَرْعِهِ، جَرَفَهُ الْمَاءُ مِنْ وَجْهِ الصَّفْوَانِ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا وَبَقِيَ مَكَانُهُ صَلْدًا أَمْلَسَ فَخَابَ أَمَلُ زَارِعِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute