للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ ذَكَرَ عِلَّةَ الِاتِّبَاعِ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِتْنَةِ، وَطَلَبُ أَنْ يُؤَوِّلُوهُ، وَلَيْسَ طَلَبُ تَأْوِيلِهِ فِي ذَاتِهِ بِمَذَمَّةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَإِنَّمَا مَحَلُّ الذَّمِّ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ تَأْوِيلًا لَيْسُوا أَهْلًا لَهُ فَيُؤَوِّلُونَهُ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ. وَهَذَا دَيْدَنُ الْمَلَاحِدَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ: الَّذِينَ يَتَعَمَّدُونَ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ تَكْثِيرًا لِسَوَادِهِمْ.

وَلَمَّا وَصَفَ أَصْحَابَ هَذَا الْمَقْصِدِ بِالزَّيْغِ فِي قُلُوبِهِمْ، عَلِمْنَا أَنَّهُ ذَمَّهُمْ بِذَلِكَ لِهَذَا الْمَقْصِدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ اشْتِغَالٍ بِالْمُتَشَابِهِ إِذَا كَانَ مُفْضِيًا إِلَى هَذَا الْمَقْصِدِ يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ. فَالَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَالزَّنَادِقَةُ، وَالْمُشْرِكُونَ مِثَالُ تَأْوِيلِ الْمُشْرِكِينَ: قِصَّةُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ- إِذْ جَاءَهُ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ- مِنَ الْمُسْلِمِينَ- يَتَقَاضَاهُ أَجْرًا، فَقَالَ الْعَاصِي- مُتَهَكِّمًا بِهِ- «وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ- أَيْ حَسَبَ اعْتِقَادِكُمْ- فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ» فَالْعَاصِي تَوَهَّمَ، أَوْ أَرَادَ الْإِيهَامَ، أَنَّ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ رُجُوعٌ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُوهِمَ دَهْمَاءَ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى تَكْذِيبِ الْخَبَرِ بِالْبَعْثِ، بِمُشَاهَدَةِ عَدَمِ رُجُوعِ أَحَدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ: فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الدُّخان: ٣٦] .

وَمِثَالُ تَأْوِيلِ الزَّنَادِقَةِ: مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليّ بن رزام الطَّائِيُّ الْكُوفِيُّ قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ حِينَ كَانَ الْجَنَّابِيُّ- زَعِيمُ الْقَرَامِطَةِ- بِمَكَّةَ، وَهُمْ يَقْتُلُونَ الْحُجَّاجَ، وَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ قد قَالَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ الْمَكِّيُّ «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا فَأَيُّ أَمْنٍ هُنَا؟» قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا خَرَجَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ أَيْ وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ، كَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] . وَالَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلُّ قَوْمٍ يَجْعَلُونَ الْبَحْثَ فِي الْمُتَشَابِهِ دَيْدَنَهُمْ،

وَيُفْضُونَ بِذَلِكَ إِلَى خِلَافَاتٍ وَتَعَصُّبَاتٍ. وَكُلُّ مَنْ يَتَأَوَّلُ الْمُتَشَابِهَ عَلَى هَوَاهُ، بِغَيْرِ دَلِيلٍ عَلَى تَأْوِيلِهِ مُسْتَنِدٌ إِلَى دَلِيلٍ وَاسْتِعْمَال عَرَبِيٍّ.

وَقَدْ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ: التَّأْوِيلُ بِحَسَبِ الْهَوَى، أَوِ التَّأْوِيلُ الْمُلْقِي فِي الْفِتْنَةِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الْآيَةَ، كَمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَتَّبِعُونَ أَنَّهُمْ يَهْتَمُّونَ بِذَلِكَ، وَيَسْتَهْتِرُونَ بِهِ، وَهَذَا مِلَاكُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَال من يتيع الْمُتَشَابِهَ لِلْإِيقَاعِ فِي الشَّكِّ وَالْإِلْحَادِ، وَبَيْنَ حَالِ مَنْ يُفَسِّرُ الْمُتَشَابِهَ وَيُؤَوِّلُهُ