وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: شَيْئاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَيْ شَيْئًا مِنَ الْغَنَاءِ. وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّحْقِيرِ أَيْ غَنَاءً ضَعِيفًا، بله الْغناء المهم، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ مَعْنَى الْفِعْلِ فِي التَّعَدِّي.
وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا كَيْفِيَّةُ تَصَرُّفِ هَذَا الْفِعْلِ التَّصَرُّفَ الْعَجِيبَ فِي كَلَامِهِمْ، وَانْفَتَحَ لَكَ مَا انْغَلَقَ مِنْ عِبَارَةِ الْكَشَّافِ، وَمَا دُونَهَا، فِي مَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى وُقُوعِ لَفْظِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ [الْبَقَرَة: ١٥٥] . وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ مِنْ بَيْنِ أَعْلَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ الْغَنَاءَ يَكُونُ بِالْفِدَاءِ بِالْمَالِ، كَدَفْعِ الدِّيَاتِ وَالْغَرَامَاتِ، وَيَكُونُ بِالنَّصْرِ وَالْقِتَالِ، وَأَوْلَى مَنْ يُدَافِعُ عَنِ الرَّجُلِ، مِنْ عَشِيرَتِهِ، أَبْنَاؤُهُ، وَعَنِ الْقَبِيلَةِ أَبْنَاؤُهَا. قَالَ قَيْسُ بْنُ الخَطِيمِ:
ثَأَرْتُ عَدِيًّا وَالْخَطِيمَ وَلَمْ أُضِعْ ... وَلَايَةَ أَشْيَاخٍ جُعِلْتُ إِزَاءَهَا
وَالْأَمْوَالُ الْمَكَاسِبُ الَّتِي تُقْتَاتُ وَتُدَّخَرُ وَيُتَعَاوَضُ بِهَا، وَهِيَ جَمْعُ مَالٍ، وَغَلَبَ اسْمُ الْمَالِ فِي كَلَامِ جُلِّ الْعَرَبِ عَلَى الْإِبِلِ قَالَ زُهَيْرٌ:
صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بِمَخْرَمِ
وَغَلَبَ فِي كَلَامِ أَهْلِ الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ عَلَى الْجَنَّاتِ وَالْحَوَائِطِ وَفِي الْحَدِيثِ «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَاله إِلَيْهِ بِئْر حاء، وَيُطْلَقُ الْمَالُ غَالِبًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَمَا
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ «أَيْنَ الْمَالُ الَّذِي عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ» .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ شُبِّهَ بِأَنَّهُ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَشَأْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ عَذَابَ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ.
وَجِيءَ بِالْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ لِاسْتِحْضَارِهِمْ كَأَنَّهُمْ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُمْ وَقُودُ النَّارِ. وَعُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَلَمْ تُفْصَلْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الَّتِي قبلهَا لَا وَعِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَهَذِهِ فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ
بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ، فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: ١٢] .