وَقَدْ قَرَنَ الْقُرْآنُ الْمَصْلَحَتَيْنِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧] .
الْمظهر الثَّالِثُ: اخْتِصَاصُهُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَمُجَادَلَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِصُنُوفِ الْمُجَادَلَاتِ وَتَعْلِيلِ أَحْكَامِهِ، بِالتَّرْغِيبِ وَبِالتَّرْهِيبِ، وَذَلِكَ رَعْيٌ لِمَرَاتِبِ نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ، فَمِنْهُمُ الْعَالِمُ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يَقْتَنِعُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، وَمِنْهُمُ الْمُكَابِرُ الَّذِي لَا يَرْعَوِي إِلَّا بِالْجَدَلِ وَالْخَطَابَةِ، وَمِنْهُمُ الْمُتَرَهِّبُ الَّذِي اعْتَادَ الرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْهُمُ الْمُكَابِرُ الْمُعَانِدُ، الَّذِي لَا يُقْلِعُهُ عَنْ شَغَبِهِ إِلَّا الْقَوَارِعُ وَالزَّوَاجِرُ.
الْمَظْهَرُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ جَاءَ بِعُمُومِ الدَّعْوَةِ لِسَائِرِ الْبَشَرِ، وَهَذَا شَيْءٍ لَمْ يَسْبِقْ فِي دِينٍ قَبْلَهُ قَطُّ، وَفِي الْقُرْآنِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الْأَعْرَاف: ١٥٨] ،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي- فَذَكَرَ- وَكَانَ الرَّسُولُ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّسُلَ كُلَّهُمْ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ إِلَى أَقْوَامِهِمْ.
وَالِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِ نُوحٍ رَسُولًا إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ: عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ انْحَصَرَ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي أَتْبَاعِ نُوحٍ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِعُمُومِ الطُّوفَانِ سَائِرَ الْأَرْضِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: ٥٩] وأيّاما كَانَ احْتِمَالُ كَوْنِ سُكَّانِ الْأَرْضِ فِي عَصْرِ نُوحٍ هُمْ مَنْ ضَمَّهُمْ وَطَنُ نُوحٍ، فَإِنَّ عُمُومَ دَعْوَتِهِ حَاصِلٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ.
الْمَظْهَرُ الرَّابِعُ: الدَّوَامُ وَلَمْ يَدَّعِ رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ أَنَّ شَرِيعَتَهُ دَائِمَةٌ، بَلْ مَا مِنْ رَسُولٍ، وَلَا كِتَابٍ، إِلَّا تَجِدُ فِيهِ بِشَارَةً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ.
الْمَظْهَرُ الْخَامِسُ: الْإِقْلَالُ مِنَ التَّفْرِيعِ فِي الْأَحْكَامِ بَلْ تَأْتِي بِأُصُولِهَا وَيُتْرَكُ التَّفْرِيعُ لِاسْتِنْبَاطِ الْمُجْتَهِدِينَ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٣٨] لِتَكُونَ الْأَحْكَامُ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَانٍ.
الْمَظْهَرُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وَصَايَا الْأَدْيَانِ إِمْكَانُ الْعَمَلِ بِهَا، وَفِي أُصُولِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ التَّرْبِيَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ الَّتِي تَأْتِي إِلَى النُّفُوسِ بِالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَوَاطِرِ الشُّرُورِ لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute