وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَزِيدَ اتِّضَاحًا بِأَضْدَادِهَا كَالْأَشْكَالِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَصْوَاتِ الْمُنْكَرَةِ، وَالْأَلْوَانِ الْكَرِيهَةِ، دَائِمًا أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ يَرَاهُ الْمَحْمُومُ.
وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْفَلَاسِفَةُ تَوْضِيحَ عِلَّةِ مُلَاءَمَةِ بَعْضِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَمَالِ لِلنُّفُوسِ: كَكَوْنِ الذَّاتِ جَمِيلَةً أَوْ قَبِيحَةَ الشَّكْلِ، وَكَوْنِ الْمُرَبَّعِ أَوِ الدَّائِرَةِ حَسَنًا لَدَى النَّفْسِ، وَالشَّكْلِ الْمُخْتَلِّ قَبِيحًا، وَمَعَ الِاعْتِرَافِ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي بَعْضِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَمَالِ وَالْقُبْحِ كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
ضُرُوبُ النَّاسِ عُشَّاقٌ ضُرُوبَا وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَسْتَجِيدُ مِنَ الْمَلَابِسِ مَا لَا يَرْضَى بِهِ الْآخَرُ وَيَسْتَحْسِنُ مِنَ الْأَلْوَانِ مَا يَسْتَقْبِحُهُ الْآخَرُ، وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَالْمُشَاهَدُ أَنَّ مُعْظَمَ الْأَحْوَالِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا النَّاسُ السَّالِمُو الْأَذْوَاقِ.
فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَقَالَ سُقْرَاطُ: سَبَبُ الْجَمَالِ حُبُّ النَّفْعِ، وَقَالَ أَفْلَاطُونُ: «الْجمال أَمر إِلَّا هِيَ أَزَلِيٌّ مَوْجُودٌ فِي عَالَمِ الْعَقْلِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّغَيُّرِ قَدْ تَمَتَّعَتِ الْأَرْوَاحُ بِهِ قَبْلَ هُبُوطِهَا إِلَى الْأَجْسَامِ فَلَمَّا نَزَلَتْ إِلَى الْأَجْسَامِ صَارَتْ مَهْمَا رَأَتْ شَيْئًا عَلَى مِثَالِ مَا عَهِدَتْهُ فِي الْعَوَالِمِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ عَالَمُ الْمِثَالِ مَالَتْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَأْلُوفُهَا مِنْ قَبْلِ هُبُوطِهَا» . وَذَهَبَ الطَّبَائِعِيُّونَ: إِلَى أَنَّ الْجَمَالَ شَيْءٌ يَنْشَأُ عِنْدَنَا عَنِ الْإِحْسَاسِ بِالْحَوَاسِّ. وَرَأَيْتُ فِي كِتَابِ «جَامِعِ أَسْرَارِ الطِّبِّ» لِلْحَكِيمِ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْن زُهْرٍ الْقُرْطُبِيِّ «الْعِشْقُ الْحِسِّيُّ إِنَّمَا هُوَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي تَسْتَحْسِنُهُ وَتَسْتَلِذُّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ النَّفْسَانِيَّ الَّذِي مَسْكَنُهُ الدِّمَاغُ قَرِيبٌ مِنَ النُّورِ الْبَصَرِيِّ الَّذِي يُحِيطُ بِالْعَيْنِ وَمُتَّصِلٌ بِمُؤَخَّرِ الدِّمَاغِ وَهُوَ الذُّكْرُ فَإِذَا نَظَرَتِ الْعَيْنُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ انْضَمَّ النُّورِيُّ الْبَصَرِيُّ وَارْتَعَدَ فَبِذَلِكَ الِانْضِمَامِ وَالِارْتِعَادِ يَتَّصِلُ بِالرُّوحِ النَّفْسَانِيِّ فَيَقْبَلُهُ قَبُولًا حَسَنًا ثُمَّ يُودِعُهُ الذُّكْرَ فَيُوجِبُ ذَلِكَ الْمَحَبَّةَ. وَيَشْتَرِكُ أَيْضًا بِالرُّوحِ الْحَيَوَانِيِّ الَّذِي مَسْكَنُهُ الْقَلْبُ لِاتِّصَالِهِ بِأَفْعَالِهِ فِي الْجَسَدِ كُلِّهِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْفِكْرَةُ وَالْهَمُّ وَالسَّهَرُ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute