وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْشَأَ الشُّعُورِ بِالْجَمَالِ قَدْ يَكُونُ عَنِ الْمُلَائِمِ، وَعَنِ التَّأَثُّرِ الْعَصَبِيِّ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ أَيْضًا كَتَأَثُّرِ الْمَحْمُومِ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ، وَعَنِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ بِكَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ كَمَا قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:
وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إِلَيْهِمُ ... مَآرِبُ قَضَّاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَ
إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمُ ... عُهُودَ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَ
وَعَنْ تَرَقُّبِ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ، وَعَنِ اعْتِقَادِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَأْلُوفِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُمَارَسَةِ بِسَبَبِ تَرَقُّبِ الْخَيْرِ مِنْ صَاحِبِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ.
وَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَمَالِ وَمِنَ الْمَحَبَّةِ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ وَهُوَ اسْتِحْسَانُ الذَّوَاتِ الْحَسَنَةِ وَاسْتِقْبَاحُ الْأَشْيَاءِ الْمُوحِشَةِ فَنَرَى الطِّفْلَ الَّذِي لَا إِلْفَ لَهُ بِشَيْءٍ يَنْفِرُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَرَاهَا وَحِشَةً.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْجَمَالَ هَلْ يُقْصَرَانِ عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ:
فَالَّذِينَ قَصَرُوهُمَا عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ لَمْ يُثْبِتُوا غَيْرَ الْمَحَبَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَقْصُرُوهُمَا عَلَيْهَا أَثْبَتُوا الْمَحَبَّةَ الرَّمْزِيَّةَ، أَعْنِي الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَكْوَانِ غَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ كَمَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَفْلَاطُونُ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ الْغَزَّالِيُّ وَفَخْرُ
الدِّينِ وَقَدْ أُضِيفَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ إِلَى أَفْلَاطُونَ، فَقِيلَ مَحَبَّةٌ أَفْلَاطُونِيَّةٌ: لِأَنَّهُ بَحَثَ عَنْهَا وَعَلَّلَهَا فَإِنَّنَا نَسْمَعُ بِصِفَاتِ مَشَاهِيرِ الرِّجَالِ مِثْلِ الرُّسُلِ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالَّذِينَ نَفَعُوا النَّاسَ، وَالَّذِينَ اتَّصَفُوا بِمَحَامِدِ الصِّفَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالْعَدْلِ، فَنَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا مَيْلًا إِلَى ذِكْرِهِمْ ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ الْمَيْلُ حَتَّى يَصِيرَ مَحَبَّةً مِنَّا إِيَّاهُمْ مَعَ أَنَّنَا مَا عَرَفْنَاهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُزَاوَلَةَ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ مِمَّا يُقَوِّي مَحَبَّةَ الْمُزَاوِلِ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُ الْخَالِقِ تَعَالَى، لَمَّا كَانَتْ كُلُّهَا كَمَالَاتٍ وَإِحْسَانًا إِلَيْنَا وَإِصْلَاحًا لِفَاسِدِنَا، أَكْسَبَنَا اعْتِقَادُهَا إِجْلَالًا لِمَوْصُوفِهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ ذَلِكَ الْإِجْلَالُ يَقْوَى إِلَى أَنْ يَصِيرَ مَحَبَّةً
وَفِي الْحَدِيثِ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»
فَكَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ قَبِيلِ الْمَحَبَّةِ وَلِذَلِكَ جُعِلَ عِنْدَهَا وِجْدَانُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ أَيْ وِجْدَانُهُ جَمِيلًا عِنْدَ مُعْتَقِدِهِ.