تَطَلُّبًا لِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يُحَقِّقُ لَهُ الْبِشَارَةَ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّكِّ فِي صِدْقِ الْوَعْدِ، وَهُوَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: ٢٦٠] ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَزَّ وُقُوعُهَا فِي الْعَادَةِ.
وَ (أَنَّى) فِيهِ بِمَعْنَى كَيْفَ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَكَانِ، لِتَعَذُّرِ عَمَلِ الْمَكَانَيْنِ اللَّذَيْنِ هما سَبَب التناسل وهما الْكِبَرُ وَالْعُقْرَةُ. وَهَذَا التَّعَجُّبُ يَسْتَلْزِمُ الشُّكْرَ عَلَى هَذِهِ الْمِنَّةِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الشُّكْرِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ زَوْجِهِ الْعَاقِرِ دُونَ أَنْ يُؤْمَرَ بِتَزَوُّجِ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَهَذِهِ كَرَامَةٌ لِامْرَأَةِ زَكَرِيَّاءَ.
وَقَوْلُهُ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ جَاءَ عَلَى طَرِيقِ الْقَلْبِ، وَأَصْلُهُ وَقَدْ بَلَغْتُ الْكِبَرَ، وَفَائِدَتُهُ إِظْهَارُ تَمَكُّنِ الْكِبَرِ مِنْهُ كَأَنَّهُ يَتَطَلَّبُهُ حَتَّى بَلَغَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النِّسَاء: ٧٨] .
وَالْعَاقِرُ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تَلِدُ عَقَرَتْ رَحِمَهَا أَيْ قَطَعَتْهُ. وَلِأَنَّهُ وَصْفٌ خَاصٌّ بِالْأُنْثَى لَمْ يُؤَنَّثْ كَقَوْلِهِمْ حَائِضٌ وَنَافِسٌ وَمُرْضِعٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤَنَّثُ فِي غَيْرِ صِيغَةِ الْفَاعِلِ فَمِنْهُ قَوْلُهُمْ عَقْرَى دُعَاءً عَلَى الْمَرْأَةِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «عَقْرَى حَلْقَى»
وَكَذَلِكَ نُفَسَاءُ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَيْ كَهَذَا الْفِعْلِ الْعَجِيبِ وَهُوَ تَقْدِيرُ الْحَمْلِ مِنْ
شَيْخٍ هَرِمٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ وَلَدٌ وَامْرَأَةٌ عَاقِرٌ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا التَّكْوِينَ حَصَلَ بِكَوْنِ زَكَرِيَّاءَ كَانَ قَبْلَ هِرَمِهِ ذَا قُوَّةٍ زَائِدَةٍ لَا تَسْتَقِرُّ بِسَبَبِهَا النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ فَلَمَّا هَرِمَ اعْتَدَلَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ فَصَارَتْ كَالْمُتَعَارَفِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالٍ فِي رَحِمِ امْرَأَتِهِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ هَذَا التَّكْوِينِ بِجُمْلَةِ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أَيْ هُوَ تَكْوِينُ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَوْجَدَ أَسْبَابَهُ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ كَمَا قَالَهُ فِي جَانِبِ تَكْوِينِ عِيسَى.
وَقَوْلُهُ: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَرَادَ آيَةً عَلَى وَقْتِ حُصُولِ مَا بُشِّرَ بِهِ، وَهَلْ هُوَ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ، فَالْآيَةُ هِيَ الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ابْتِدَاءِ حَمْلِ زَوْجِهِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ: آيَةُ تَحَقُّقِ كَوْنِ الْخِطَابِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَارِدًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا فِي إِنْجِيلِ لُوقَا. وَعِنْدِي فِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الْخِطَابُ الْوَارِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ وَيَعْلَمُونَهُ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute