للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَنَّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ أَيْ مَحَلُّ قِيَامِهِ لِلصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الْبَقَرَة: ١٢٥] وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:

عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمْ ... مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَائِمْ

وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْحَجَرَ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الصَّخْرَةِ الَّتِي ارْتَقَى عَلَيْهَا لِيَرْفَعَ جُدْرَانَ الْكَعْبَةِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ الزَّجَّاجُ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَمَّا يُعْتَرَضُ بِهِ مِنْ لُزُومِ تَبْيِينِ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ بِأَنَّ هَذَا الْمُفْرَدَ فِي قُوَّةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّهُ آيَاتٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى نُبُوَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِمُعْجِزَةٍ لَهُ وَعَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ الْأَثَرِ مَعَ تَلَاشِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ فِي طِيلَةِ الْقُرُونِ آيَةٌ أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً عَطْفٌ عَلَى مَزَايَا الْبَيْتِ وَفَضَائِلِهِ مِنَ الْأَمْنِ فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَامْتِنَانٌ بِمَا تَقَرَّرَ فِي مَاضِي الْعُصُورِ، فَهُوَ خَبَرٌ لَفْظًا مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ فِيهِ قَدْ تَقَرَّرَ وَاطَّرَدَ، وَهَذَا الِامْتِنَانُ كَمَا امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ أَسْمَاعًا

وَأَبْصَارًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْقَضُ بِمَنْ وُلِدَ أَكْمَهَ أَوْ عَرَضَ لَهُ مَا أَزَالَ بَعْضَ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا خَبَرٌ عَمَّا كَانَ وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ حُكْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى آيَاتٍ وَنِعَمٍ مُتَعَدِّدَاتٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَانَ صَرَفَ الْقُلُوبَ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى مُعَارَضَتِهِ، وَصَرَفَ الْأَيْدِي عَنْ إِذَايَتِهِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى قَبْلَ مَجِيءِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَازِعٌ فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنِ اخْتِلَالِ الْأَمْنِ فِي الْقِتَالِ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَفِي فِتْنَةِ الْقَرَامِطَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أَوَّلَ هَذِه السُّورَة [آل عمرَان: ٧] .