الْآيَاتِ هِيَ مَا يَسَرَّهُ اللَّهُ لِسُكَّانِ الْحَرَمِ وَزَائِرِيهِ مِنْ طُرُقِ الْخَيْرِ، وَمَا دَفَعَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَضْرَارِ، عَلَى حَالَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا سَائِرُ الْعَرَبِ، وَقَمَعُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، مَعَ تَكَالُبِهِمْ عَلَى إِرْضَاءِ نُفُوسِهِمْ.
وَأَعْظَمُهَا الْأَمْنُ، الَّذِي وُطِّنَ عَلَيْهِ نُفُوسُ جَمِيعِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعَ عَدَمِ تَدَيُّنِهِمْ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُلَاقِي قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَنَالُهُ بِسُوءٍ، وَتَوَاضُعُ مِثْلِ هَذَا بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْقَبَائِلِ، ذَاتِ اخْتِلَافِ الْأَنْسَابِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَدْيَانِ، آيَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَقَرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَكَذَلِكَ تَأْمِينُ وَحْشِهِ مَعَ افْتِتَانِ الْعَرَبِ بِحُبِّ الصَّيْدِ. وَمِنْهَا مَا شَاعَ بَيْنَ الْعَرَبِ مَنْ قَصْمِ كُلِّ مَنْ رَامَهُ بِسُوءٍ، وَمَا انْصِرَافُ الْأَحْبَاشِ عَنْهُ بَعْدَ امْتِلَاكِهِمْ جَمِيعَ الْيَمَنِ وَتِهَامَةَ إِلَّا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِيهِ. وَمِنْهَا انْبِثَاقُ الْمَاءِ فِيهِ لِإِسْمَاعِيلَ حِينَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْهَلَاكِ. وَافْتِدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ حِينَ أَرَادَ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قُرْبَانَهُ. وَمِنْهَا مَا شَاعَ بَيْنَ الْعَرَبِ
وَتَوَارَثُوا خَبَرَهُ أَبًا عَنْ جَدٍّ مِنْ نُزُولِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى أَبِي قَبِيسٍ بِمَرْأَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَعَلَّهُ حَجَرٌ كَوْكَبِيٌّ. وَمِنْهَا تَيْسِيرُ الرِّزْقِ لِسَاكِنِيهِ مَعَ قُحُولَةِ أَرْضِهِ، وَمُلُوحَةِ مَائِهِ.
وَقَوْلُهُ: مَقامُ إِبْراهِيمَ أَصْلُ الْمَقَامِ أَنَّهُ مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْقِيَامُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّائِعِ وَهُوَ ضِدُّ الْقُعُودِ، وَيُطْلَقُ عَلَى خُصُوصِ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَرَفْعُ مَقَامٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ يَعُودُ عَلَى لَلَّذِي بِبَكَّةَ، أَيْ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ الْبَيْتُ الَّذِي بِبَكَّةٍ. وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا جَاءَ عَلَى الْحَذْفِ الَّذِي سَمَّاهُ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي، التَّابِعِينَ لِاصْطِلَاحِ السَّكَّاكِيِّ، بِالْحَذْفِ لِلِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي عَلَى تَرْكِهِ، وَذَلِكَ فِي الرَّفْعِ عَلَى الْمَدْحِ، أَوِ الذَّمِّ، أَوِ التَّرَحُّمِ، بَعْدَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ كَقَوْلِ أَبِي الطَّمْحَانِ الْقَيْنِيِّ:
فَإِنَّ بَنِي لَأْمِ بْنِ عَمْرٍو أَرُومَةٌ ... سَمَتْ فَوْقَ صَعْبٍ لَا تُنَالُ مَرَاقِبُهُ
نُجُومُ سَمَاءٍ كُلَّمَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ ... بَدَا كَوْكَبٌ تَأْوِي إِلَيْهِ كَوَاكِبُهُ
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute