وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَا تُحِبُّونَ هُوَ الْغَنِيمَةُ فَإِنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ (فَشِلْتُمْ، وَتَنَازَعْتُمْ، وَعَصَيْتُمْ) ، وَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْغَنِيمَةِ بِاسْمِهَا، إِلَى الْمَوْصُولِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ عَجِلُوا فِي طَلَبِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَمْهِيدٌ لِبِسَاطِ الْمَعْذِرَةِ إِذْ كَانَ فَشَلُهُمْ وَتَنَازُعُهُمْ وَعِصْيَانُهُمْ عَنْ سَبَبٍ مِنْ أَغْرَاضِ الْحَرْبِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِ (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ جُبْنٍ، وَلَا عَنْ ضَعْفِ إِيمَانٍ، أَوْ قَصْدِ
خِذْلَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّهُ تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ تَفْصِيل لتنازعتم، وَتَبْيِينٌ لِ (عَصَيْتُمْ) ، وَتَخْصِيصٌ لَهُ بِأَنَّ الْعَاصِينَ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ الْمُتَنَازِعِينَ، إِذِ الَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ لَيْسُوا بِعَاصِينَ، وَلِذَلِكَ أُخِّرَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ إِلَى بَعْدِ الْفِعْلَيْنِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَقِّبَ بِهَا قَوْلَهُ: وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْجُمْلَةِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ ثَلَاثِ جُمَلٍ وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا إِرَادَةُ نِعْمَةِ الدُّنْيَا وَخَيْرِهَا، وَهِيَ الْغَنِيمَةُ، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ الْغَنِيمَةَ لَمْ يَحْرِصْ عَلَى ثَوَابِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ الرَّسُولِ بِدُونِ تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ هُوَ مُفَرِّطًا فِي الْآخِرَةِ مُطْلَقًا، وَلَا حَاسِبًا تَحْصِيلَ خَيْرِ الدُّنْيَا فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ مُفِيتًا عَلَيْهِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِينَ أَرَادُوا ثَوَابَ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِيمَانِ حِينَئِذٍ، إِذْ لَيْسَ الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ فَائِدَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ مِنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، مَعَ عَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِدَالٍّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ بِالْآخِرَةِ، وَإِنْكَارٍ لَهَا، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، فَقَطْ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُخَالَفَةُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ عِصْيَانًا، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ كَانَتْ عَنِ اجْتِهَادٍ لَا عَنِ اسْتِخْفَافٍ، إِذْ كَانُوا قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَنَا بِالثَّبَاتِ هُنَا لِحِمَايَةِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَنَا وَلِلْوُقُوفِ هُنَا حَتَّى تَفُوتَنَا الْغَنَائِمُ، فَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ، فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هُنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute