شَاعَ تَصْبِيرُ الْمَحْزُونِ وَتَعْزِيَتُهُ بِتَذْكِيرِهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، وَلَهُ مَزِيدُ ارْتِبَاطٍ بِقَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩] ، وَكَذَلِكَ جَاءَتْ آيُ هَذَا الْغَرَضِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ نَاشِئًا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، مُتَفَنِّنَةً فِي مَوَاقِعِهَا بِحَسَبِ مَا سَمَحَتْ بِهِ فُرَصُ الْفَرَاغِ مِنْ غَرَضٍ وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ فَمَا تَجِدُ طَرَّادَ الْكَلَامِ يَغْدُو طَلْقًا فِي حَلْبَةِ الِاسْتِطْرَادِ إِلَّا وَتَجِدُ لَهُ رَوَاحًا إِلَى مُنْبَعَثِهِ.
وَالْمَنُّ هُنَا: إِسْدَاءُ الْمِنَّةِ أَيِ النِّعْمَةِ، وَلَيْسَ هُوَ تَعْدَادُ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٤] ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ هَذَا الْمَنِّ مَنًّا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ. وَالْكُلُّ مَحْمُودٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَنَّ إِنَّمَا كَانَ مَذْمُومًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْدَاءِ التَّطَاوُلِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَطَوْلُ اللَّهِ لَيْسَ بمجحود.
وَالْمرَاد بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَي من أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ.
وَ (إِذْ) ظَرْفٌ لِ (مَنَّ) لِأَنَّ الْإِنْعَامَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ حَصَلَ أَوْقَاتَ الْبَعْثِ.
وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْمُمَاثَلَةُ لَهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا سَبَبًا لِقُوَّةِ التَّوَاصُلِ، وَهِيَ هُنَا النَّسَبُ، وَاللُّغَةُ، وَالْوَطَنُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مِنْ صَمِيمِهِمْ لَيْسَ انْتِسَابُهُ إِلَيْهِمْ بِوَلَاءٍ أَو لصق، وكأنّه هَذَا وَجْهُ إِطْلَاقِ النَّفْسِ عَلَيْهِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ نَسَبِهِمْ أَيْ كَوْنُهُ عَرَبِيًّا يُوجِبُ أُنْسَهُمْ بِهِ وَالرُّكُونَ إِلَيْهِ وَعَدَمَ الِاسْتِيحَاشِ مِنْهُ، وَكَوْنُهُ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِمْ يَجْعَلُهُمْ سَرِيعِينَ إِلَى فَهْمِ مَا يَجِيءُ بِهِ، وَكَوْنُهُ جَارًا لَهُمْ وَرَبِيًّا فِيهِمْ يُعَجِّلُ لَهُمُ التَّصْدِيقَ بِرِسَالَتِهِ، إِذْ يَكُونُونَ قَدْ خَبَرُوا أَمْرَهُ، وَعَلِمُوا فَضْلَهُ، وَشَاهَدُوا اسْتِقَامَتَهُ وَمُعْجِزَاتِهِ. وَعَنِ النِّقَاشِ: قِيلَ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَلَهَا وِلَادَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَغْلِبَ، وَبِذَلِكَ فُسِّرَ: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute