وَهَذِهِ الْمِنَّةُ خَاصَّةٌ بِالْعَرَبِ وَمَزِيَّةٌ لَهُمْ، زِيَادَةً عَلَى الْمِنَّةِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، فَالْعَرَبُ وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الدَّعْوَةَ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ظُهُورَ الدِّينِ بَيْنَهُمْ لِيَتَلَقَّوْهُ التَّلَقِّيَ الْكَامِلَ الْمُنَاسِبَ لِصَفَاءِ أَذْهَانِهِمْ وَسُرْعَةِ فَهْمِهِمْ لِدَقَائِقِ اللُّغَةِ، ثُمَّ يَكُونُوا هُمْ حَمَلَتَهُ إِلَى الْبَشَرِ، فَيَكُونُوا أَعْوَانًا عَلَى عُمُومِ الدَّعْوَةِ، وَلِمَنْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْعَرَبِ وَأَتْقَنَ لِسَانَهُمْ وَالْتَبَسَ بِعَوَائِدِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمُ اقْتِرَابٌ مِنْ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ وَهُوَ مُعْظَمُهَا، إِذْ لَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا إِلَّا النَّسَبُ وَالْمَوْطِنُ وَمَا هُمَا إِلَّا مُكَمِّلَانِ لِحُسْنِ التَّلَقِّي، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُدَّةَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِ خَاصَّةً بِحَيْثُ إِنَّ تَلَقِّيَهُمُ الدَّعْوَةَ كَانَ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْفَهْمِ حَتَّى اسْتَقَرَّ الدِّينُ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مِنَ الْعَرَب»
. وَقَوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أَيْ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَسُمِّيَتْ جُمَلُ الْقُرْآنِ آيَاتٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ بَلَاغَةِ اللَّفْظِ وَكَمَالِ الْمَعْنَى، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَكَانُوا صَالِحِينَ لِفَهْمِ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِتُرْجُمَانٍ.
وَالتَّزْكِيَةُ: التَّطْهِيرُ، أَيْ يُطَهِّرُ النُّفُوسَ بِهَدْيِ الْإِسْلَامِ.
وَتَعْلِيمُ الْكِتَابِ هُوَ تَبْيِينُ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ وَأَمَرَهُمْ بِحِفْظِ أَلْفَاظِهِ، لِتَكُونَ مَعَانِيهِ حَاضِرَةً عِنْدَهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَقْنِينِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ كلّه مَانع للأنفس مِنْ سُوءِ الْحَالِ وَاخْتِلَالِ النِّظَامِ، وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْحِكْمَةِ، وَتَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٩] .
وَعَطْفُ الْحِكْمَةِ عَلَى الْكِتَابِ عَطْفُ الْأَخَصِّ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ وَجْهٍ، فَمِنَ الْحِكْمَةِ مَا هُوَ فِي الْكِتَابِ نَحْوُ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩] وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» وَفِي الْكِتَابِ مَا هُوَ عِلْمٌ وَلَيْسَ حِكْمَةً مِثْلُ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute