جَزَى اللَّهُ الْمَصَائِبَ كُلَّ خَيْرٍ ... عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صديقي
وَمَا صدق مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ هُوَ اشْتِبَاهُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ.
وَحَرْفَا (عَلَى) الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، فِي قَوْلِهِ: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ مَعْنَى مَجْرُورِهَا وَيَتَبَيَّنُ الْوَصْفُ الْمُبْهَمُ فِي الصِّلَةِ بِمَا وَرَدَ بَعْدَ (حَتَّى) من قَوْله:
عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ عَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ.
وَمَعْنَى مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْيُ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِلَّهِ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْجُحُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ [آل عمرَان:
٧٩] إِلَخْ ...
فَقَوْلُهُ: عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ مِنَ اخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِ الْخَالِصِ وَالْمُنَافِقِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُخَاطَبٌ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِاعْتِبَارِ مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصِ مِنَ النِّفَاقِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقُلْ: لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُرَادِ بِلَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ غَايَةٌ لِلْجُحُودِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْوَذْرَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَةُ اللَّهِ بَعْدَ وَقْتِ الْإِخْبَارِ وَلَا وَاقِعًا مِنْهُ تَعَالَى إِلَى أَنْ يَحْصُلَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، فَإِذَا حَصَلَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ صَارَ هَذَا الْوَذْرَ مُمْكِنًا، فَقَدْ تَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِحُصُولِهِ وَبِعَدَمِ حُصُولِهِ، وَمَعْنَاهُ رُجُوع إِلَى حَال الِاخْتِيَارِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِحَالَةِ الِاسْتِحَالَةِ.
وَلِحَتَّى اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ بَعْدَ نَفْيِ الْجُحُودِ، فَمَعْنَاهَا تَنْهِيَةُ الِاسْتِحَالَةِ: ذَلِكَ أَنَّ الْجُحُودَ أَخَصُّ مِنَ النَّفْيِ لِأَنَّ أَصْلَ وَضْعِ الصِّيغَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ لَامِ الْجُحُودِ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ اسْمِ كَانَ الْمَنْفِيَّةِ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ كَالْمُسْتَحِيلِ، فَإِذَا غَيَّاهُ الْمُتَكَلِّمُ بِغَايَةٍ كَانَتْ تِلْكَ الْغَايَةُ غَايَةً لِلِاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْجُحُودِ، وَلَيْسَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute