للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

غَايَةً لِلنَّفْيِ حَتَّى يَكُونَ مَفْهُومُهَا أَنَّهُ بَعْدَ حُصُولِ الْغَايَةِ يَثْبُتُ مَا كَانَ مَنْفِيًّا، وَهَذَا كُلُّهُ لَمْحٌ لِأَصْلِ وَضْعِ صِيغَةِ الْجُحُودِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مُبَالَغَةِ النَّفْيِ لَا لِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي مَعْنَى مُطْلَقِ النَّفْيِ، وَقَدْ أَهْمَلَ التَّنْبِيهَ عَلَى إِشْكَالِ الْغَايَةِ هُنَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمُتَابِعُوهُ، وَتَنَبَّهَ لَهَا أَبُو حَيَّانٍ، فَاسْتَشْكَلَهَا حَتَّى اضطرّ إِلَى تأوّل النَّفْيِ بِالْإِثْبَاتِ، فَجَعَلَ التَّقْدِيرَ: إِنَّ اللَّهَ يُخَلِّصُ بَيْنَكُمْ بِالِامْتِحَانِ، حَتَّى يَمِيزَ. وَأَخَذَ هَذَا التَّأْوِيلَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَوَّلَ تَأْوِيلًا أَحْسَنَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُعَطِّلًا لِوُجُودِ قَرِينَةٍ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْمَفْهُومِ، وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْتُهُ وُضُوحٌ وَتَوْقِيفٌ عَلَى اسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ رَشِيقٍ.

وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الطَّيِّبِ مَعْنَاهَا الْفَصْلُ أَيْ فَصْلُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَهُوَ مَعْنَى أَثْبَتَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَبَحَثَ فِيهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٠] .

وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِضَمِيرِ مَا أَنْتُمْ لِلْكُفَّارِ، أَيْ: لَا يَتْرُكُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ جَاهِلِينَ بِأَحْوَالِكُمْ مِنَ النِّفَاقِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَمِيزَ- بِفَتْحِ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَهَا سَاكِنَةٍ- مِنْ مَازَ يَمِيزُ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ- مِنْ مَيَّزَ مُضَاعَفِ مَازَ.

وَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ يَعْنِي أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُمَيِّزَ لَكُمُ الْخَبِيثَ فَتَعْرِفُوا أَعْدَاءَكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ إِطْلَاعُكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ أَسْبَابًا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِزَّ أَعْدَاءَكُمْ فَيُظْهِرُوا لَكُمُ الْعَدَاوَةَ فَتَطَّلِعُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ مُؤَسَّسًا عَلَى اسْتِفَادَةِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَالنَّتَائِجِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا.