(١٩٤)
هَذَا غَرَضٌ أُنُفٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَتَابَعَ مِنْ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، انْتُقِلَ بِهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَقْصِدِ وَالْمُتَخَلِّلَاتِ بِالْمُنَاسَبَاتِ، إِلَى غَرَضٍ جَدِيدٍ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ وَأَعْرَاضِهَا وَالتَّنْوِيهُ بِالَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ آيَاتٍ.
وَمِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ يَكُونُ إِيذَانًا بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ عَلَى أَغْرَاضِ السُّورَةِ، عَلَى تَفَنُّنِهَا، فَقَدْ كَانَ التَّنَقُّلُ فِيهَا مِنَ الْغَرَضِ إِلَى مُشَاكِلِهِ وَقَدْ وَقَعَ الِانْتِقَالُ الْآنَ إِلَى غَرَضٍ عَامٍّ: وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الِاتِّعَاظِ بِذَلِكَ، وَهَذَا النَّحْوُ فِي الِانْتِقَالِ يَعْرِضُ لِلْخَطِيبِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَغْرَاضِهِ عَقِبَ إِيفَائِهَا حَقَّهَا إِلَى غَرَضٍ آخَرَ إِيذَانًا بِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الِانْتِهَاءِ، وَشَأْنُ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ بِالْمَوْعِظَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ أَغْرَاضِ الرِّسَالَةِ، كَمَا وَقَعَ فِي خِتَامِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.
وَالْمُرَادُ بِ خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هُنَا: إِمَّا آثَارُ خَلْقِهَا، وَهُوَ النِّظَامُ الَّذِي جُعِلَ فِيهَا، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: ١١] . وَأولُوا الْأَلْبَابِ أَهْلُ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ لبّ الشَّيْء هُوَ خُلَاصَتُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانَ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ [الْبَقَرَة: ١٦٤] إِلَخْ.
ويَذْكُرُونَ اللَّهَ إِمَّا مِنَ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ وَإِمَّا مِنَ الذِّكْرِ القلبي وَهُوَ التفكّر، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ عُمُومَ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَهُ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَقَوْلِهِمْ: اشْتَهَرَ كَذَا عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ هِيَ مُتَعَارَفُ أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي السَّلَامَةِ، أَيْ أَحْوَالِ الشُّغْلِ وَالرَّاحَةِ وَقَصْدِ النَّوْمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَحْوَالَ الْمُصَلِّينَ:
مِنْ قَادِرٍ، وَعَاجِزٍ، وَشَدِيدِ الْعَجْزِ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ بَعِيدٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَطْفٌ مُرَادِفٌ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ فِيمَا سبق التفكّر، وَإِعَادَتَهُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمُتَفَكَّرِ فِيهِ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ مُغَايِرٌ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَذْكُرُونَ ذكر اللِّسَان. والتفكّر عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute