للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شَأْنُ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ:

كَانَ أَكْثَرَ شَأْنِهِ التَّفَكُّرُ، قِيلَ لَهُ: أَتَرَى التَّفَكُّرَ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ الْيَقِينُ.

وَالْخَلْقُ بِمَعْنَى كَيْفِيَّةِ أَثَرِ الْخَلْقِ، أَوِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَالْإِضَافَةُ إِمَّا عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى (فِي) .

وَقَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ: أَيْ يَتَفَكَّرُونَ قَائِلِينَ: رَبَّنَا إِلَخْ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أُرِيدَ بِهِ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الدُّعَاءِ.

فَإِنْ قُلْتَ: كَيفَ تواطأ الْجمع مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ عَلَى قَوْلِ هَذَا التَّنْزِيهِ وَالدُّعَاء عِنْد التفكّر مَعَ اخْتِلَافِ تَفْكِيرِهِمْ وَتَأَثُّرِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا يُلَازِمُونَهُ عِنْدَ التَّفَكُّرِ وَعَقِبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُمْ إِيَّاهُ فَصَارَ هَجِّيرَاهُمْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا [الْبَقَرَة: ٢٨٥] الْآيَاتِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ

حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي «الصَّحِيحِ» قَالَ: «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ»

إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.

وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا حِكَايَةً لِتَفَكُّرِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ، فَهُوَ كَلَامُ النَّفْسِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُتَفَكِّرِينَ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي صِحَّةِ التَّفَكُّرِ لِأَنَّهُ تَنَقَّلَ مِنْ مَعْنًى إِلَى مُتَفَرِّعٍ عَنْهُ، وَقَدِ اسْتَوَى أُولُو الْأَلْبَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ هُنَا فِي إِدْرَاكِ هَذِهِ الْمعَانِي، فأوّل التفكّر أَنْتَجَ لَهُمْ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تُخْلَقْ بَاطِلًا، ثُمَّ تَفَرَّعَ عَنْهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وَسُؤَالِهِ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي الْمَخْلُوقَاتِ طَائِعًا وَعَاصِيًا، فَعَلِمُوا أَنَّ وَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ ثَوَابًا وَعِقَابًا، فَاسْتَعَاذُوا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. وَتَوَسَّلُوا إِلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ بَذَلُوا غَايَةَ مَقْدُورِهِمْ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ إِذِ اسْتَجَابُوا لِمُنَادِي الْإِيمَانِ وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَأَلُوا غُفْرَانَ الذُّنُوبِ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ، وَالْمَوْتَ عَلَى الْبِرِّ إِلَى آخِرِهِ ... فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ يَخْلُو مِنْ هَذِهِ التَّفَكُّرَاتِ وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَشَاعَتْ بَيْنَهُمُ، اهْتَدَى لِهَذَا التَّفْكِيرِ مَنْ لَمْ يَكُنِ انْتَبَهَ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَصَارَ شَائِعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَعَانِيهِ وَأَلْفَاظِهِ.