مُقْتَضَى تَقْدِيرِ الِاسْمِ وَهُوَ كَوْنُهُ الْأَصْلَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْحَالِيَّةِ، وَمُقْتَضَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ وَهُوَ كَوْنُهُ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِأَنَّ مَا هُنَا ظَرْفُ لَغْوٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُعَدِّيَ الْأَفْعَالَ وَيَتَعَلَّقَ بِهَا، وَلِأَنَّ مَقْصِدَ الْمُبْتَدِئِ بِالْبَسْمَلَةِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَمَلِهِ ذَلِكَ مُقَارِنًا لِبَرَكَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّرَ
مُتَعَلِّقُ الْجَارِّ لَفْظًا دَالًّا عَلَى الْفِعْلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ. وَهُوَ أَنْسَبُ لِتَعْمِيمِ التَّيَمُّنِ لِأَجْزَاءِ الْفِعْلِ، فَالِابْتِدَاءُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَقَلُّ عُمُومًا، فَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْعَامِّ يُخَصَّصُ وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْخَاصِّ يُعَمَّمُ وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يُلْغَزَ بِهِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْقَرَائِنُ كَقَوْلِ الدَّاعِي لِلْمُعَرِّسِ «بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ» (١) وَقَوْلِ الْمُسَافِرِ عِنْدَ حُلُولِهِ وَتَرْحَالِهِ «بِاسْمِ اللَّهِ وَالْبَرَكَاتِ» وَقَوْلِ نسَاء الْعَرَب عِنْد مَا يَزْفُفْنَ الْعَرُوسَ «بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ» وَلِذَلِكَ كَانَ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ هَاهُنَا وَاضِحًا. وَقَدْ أُسْعِفَ هَذَا الْحَذْفُ بِفَائِدَةٍ وَهِيَ صَلُوحِيَّةُ الْبَسْمَلَةِ لِيَبْتَدِئَ بِهَا كُلُّ شَارِعٍ فِي فِعْلٍ فَلَا يَلْجَأُ إِلَى مُخَالَفَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ عِنْدَ اقْتِبَاسِهِ، وَالْحَذْفُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ لِأَنَّهُ حَذْفُ مَا قَدْ يُصَرَّحُ بِهِ فِي الْكَلَامِ، بِخِلَافِ مُتَعَلِّقَاتِ الظُّرُوفِ الْمُسْتَقِرَّةِ نَحْوَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يُظْهِرُونَ الْمُتَعَلِّقَ فَلَا يَقُولُونَ خَيْرٌ كَائِنٌ عِنْدَكَ وَلِذَلِكَ عَدُّوا نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي
مِنَ الْمُسَاوَاةِ دُونَ الْإِيجَازِ يَعْنِي مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حَذْفِ الْمُتَعَلِّقِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُتَعَلِّقُ مَحْذُوفًا تَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ فِي مَوْضِعِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِهِ كَمَا هُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ إِذْ لَا قَصْدَ هُنَا لِإِفَادَةِ الْبَسْمَلَةِ الْحَصْرَ، وَدَعْوَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَقْدِيرَهُ مُؤَخَّرًا تَعَمُّقٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ حَالَةِ الْحَذْفِ، فَالْأَنْسَبُ أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى حَسَبِ الْأَصْلِ.
وَالْبَاءُ بَاء الملابسة والملابسة، هِيَ الْمُصَاحَبَةُ، وَهِيَ الْإِلْصَاقُ أَيْضًا فَهَذِهِ مُتَرَادِفَاتٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهِيَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٠] وَقَوْلِهِمْ: «بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ» وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَكْثَرُ مَعَانِي الْبَاءِ وَأَشْهَرُهَا، قَالَ سِيبَوَيْهِ:
الْإِلْصَاقُ لَا يُفَارِقُ الْبَاءَ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ تَصَارِيفُ مَعَانِيهَا وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :
«وَهَذَا الْوَجْهُ (أَيِ الْمُلَابَسَةُ) أَعْرَبُ وَأَحْسَنُ» أَيْ أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ الْبَاءِ لِلْآلَةِ أَيْ أَدْخَلَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَحْسَنَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّبَرُّكِ بِمُلَابَسَةِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ لِاسْمِهِ تَعَالَى.
وَالِاسْمُ لَفْظٌ جُعِلَ دَالًّا عَلَى ذَاتٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ بِشَخْصِهَا أَوْ نَوْعِهَا، وَجَعَلَهُ أَئِمَّةُ الْبَصْرَةِ مُشْتَقًّا مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الرِّفْعَةُ لِأَنَّهَا تَتَحَقَّقُ فِي إِطْلَاقَاتِ الِاسْمِ وَلَوْ بِتَأْوِيلٍ فَإِنَّ أَصْلَ
(١) انْظُر: حَدِيث بِنَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيدة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute