والتحيت: قَشَرْتُ، أَيْ قَدَدْتُ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ أَخَذَ جِلْدًا مِنْ بَاطِنِ عُنُقِ بَعِيرٍ وَعَمِلَهُ سَوْطًا لِيَضْرِبَ بِهِ امْرَأَتَيْهِ، يُهَدِّدُهُمَا بِأَنَّ السَّوْطَ قَدْ جَفَّ وَصَلُحَ لِأَنْ يُضْرَبَ بِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: (كُنَّا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ قَوْمًا نَغْلِبُ نِسَاءَنَا فَإِذَا الْأَنْصَارُ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَأَخَذَ نِسَاؤُنَا يَتَأَدَّبْنَ بِأَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ) . فَإِذَا كَانَ الضَّرْبُ مَأْذُونًا فِيهِ لِلْأَزْوَاجِ دُونَ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَكَانَ سَبَبُهُ مُجَرَّدَ الْعِصْيَانِ وَالْكَرَاهِيَةِ دُونَ الْفَاحِشَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ أُذِنَ فِيهِ لِقَوْمٍ لَا يَعُدُّونَ صُدُورَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ إِضْرَارًا وَلَا عَارًا وَلَا بِدْعًا مِنَ الْمُعَامَلَةِ فِي الْعَائِلَةِ، وَلَا تَشْعُرُ نِسَاؤُهُمْ بِمِقْدَارِ غَضَبِهِمْ إِلَّا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّرْتِيبُ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ ذِكْرِهَا مَعَ ظُهُورِ أَنَّهُ لَا يُرَادُ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَالتَّرْتِيبُ هُوَ الْأَصْلُ
وَالْمُتَبَادِرُ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعِظُهَا، فَإِنْ قَبِلَتْ، وَإِلَّا هَجَرَهَا، فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ، وَإِلَّا ضَرَبَهَا، وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاوَ هَنَا مُرَادٌ بِهَا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ أَقْسَامِ النِّسَاءِ فِي النُّشُوزِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا احْتِمَالُ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِيهِ يَجْرِي عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي ضَمَائِرِ تَخافُونَ وَمَا بَعْدَهُ، وَالْمُرَادُ الطَّاعَةُ بَعْدَ النُّشُوزِ، أَيْ إِنْ رَجَعْنَ عَنِ النُّشُوزِ إِلَى الطَّاعَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَمَعْنَى: فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا فَلَا تَطْلُبُوا طَرِيقًا لِإِجْرَاءِ تِلْكَ الزَّوَاجِرِ عَلَيْهِنَّ، وَالْخِطَابُ صَالِحٌ لِكُلِّ مِنْ جُعِلَ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى الزَّوْجَاتِ فِي حَالَةِ النُّشُوزِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَالسَّبِيلُ حَقِيقَتُهُ الطَّرِيقُ، وَأُطْلِقَ هُنَا مَجَازًا عَلَى التَّوَسُّلِ وَالتَّسَبُّبِ وَالتَّذَرُّعِ إِلَى أَخْذِ الْحَقِّ، وَسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٩١] ، وَانْظُرْ قَوْلَهُ الْآتِيَ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.
وعَلَيْهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِ (سَبِيلًا) لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْحُكْمِ وَالسُّلْطَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: ٩١] .
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيٌّ عَلَيْكُمْ، حَاكِمٌ فِيكُمْ، فَهُوَ يَعْدِلُ بَيْنَكُمْ، وَهُوَ كَبِيرٌ، أَيْ قَوِيٌّ قَادِرٌ، فَبِوَصْفِ الْعُلُوِّ يَتَعَيَّنُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَبِوَصْفِ الْقُدْرَةِ يُحْذَرُ بَطْشُهُ عِنْدَ عِصْيَانِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute