للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْبَاءُ فِي بِما حَفِظَ اللَّهُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ حِفْظًا مُلَابِسًا لِمَا حَفِظَ اللَّهُ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ بِحِفْظِ اللَّهِ، وَحَفِظُ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ بِالْحِفْظِ، فَالْمُرَادُ الْحِفْظُ التَّكْلِيفِيُّ، وَمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ أَنَّهُنَّ يَحْفَظْنَ أَزْوَاجَهُنَّ حِفْظًا مُطَابِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْرُ اللَّهِ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِيهِ حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ حَقِّ اللَّهِ، فَشَمِلَ مَا يَكْرَهُهُ الزَّوْجُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَرَجٌ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَيَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِلنِّسَاءِ فِيهِ، كَمَا أَذِنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ: أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ. لِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ الشُّهُودَ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فِي غَيْبَتِهِ وَتُشْهِدَهُمْ بِمَا تُرِيدُ وَكَمَا أَذِنَ لَهُنَّ النَّبِيءُ أَنْ

يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَوْلُهُ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ هَذِهِ بَعْضُ الْأَحْوَالِ الْمُضَادَّةِ لِلصَّلَاحِ وَهُوَ النُّشُوزُ، أَيِ الْكَرَاهِيَةُ لِلزَّوْجِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِسُوءِ خُلُقِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّ لَهَا رَغْبَةً فِي التَّزَوُّجِ بِآخَرَ، وَقَدْ يَكُونُ لِقَسْوَةٍ فِي خُلُقِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ. وَالنُّشُوزُ فِي اللُّغَةِ التَّرَفُّعُ وَالنُّهُوضُ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاضْطِرَابِ وَالتَّبَاعُدِ، وَمِنْهُ نَشَزُ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنْهَا.

قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: النُّشُوزُ عِصْيَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَالتَّرَفُّعُ عَلَيْهِ وَإِظْهَارُ كَرَاهِيَتِهِ، أَيْ إِظْهَارُ كَرَاهِيَةٍ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً مِنْهَا، أَيْ بَعْدَ أَنْ عَاشَرَتْهُ، كَقَوْلِهِ: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا» . وَجَعَلُوا الْإِذْنَ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ مُرَتَّبًا عَلَى هَذَا الْعِصْيَانِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ مِنَ الْإِذْنِ لِلزَّوْجِ فِي ضَرْبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ ظُهُورِ الْفَاحِشَةِ. وَعِنْدِي أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ وَالْأَخْبَارَ مَحْمَلُ الْإِبَاحَةِ فِيهَا أَنَّهَا قَدْ رُوعِيَ فِيهَا عُرْفُ بَعْضِ الطَّبَقَاتِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْبَدْوِ مِنْهُمْ لَا يَعُدُّونَ ضَرْبَ الْمَرْأَةِ اعْتِدَاءً، وَلَا تَعُدُّهُ النِّسَاءُ أَيْضًا اعْتِدَاءً، قَالَ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ النَّمِرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِجِرَانِ الْعَوْدِ.

عَمَدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ ... وَلَلْكَيْسُ أَمْضَى فِي الْأُمُورِ وَأَنْجَحُ

خُذَا حَذَرًا يَا خُلَّتَيَّ فِإِنَّنِي ... رَأَيْتُ جِرَانَ الْعَوْدِ قَدْ كَادَ يَصْلُحُ