وَلِأَنَّ فِي الْإِتْيَان ب (بِمَا) مَعَ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ احْتِمَالِ الْمَصْدَرِيَّةِ جَزَالَةٌ لَا تُوجَدُ فِي قَوْلِنَا: بِتَفْضِيلِ اللَّهِ وَبِالْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ يُرَجِّحُونَ الْأَفْعَالَ عَلَى الْأَسْمَاءِ فِي طُرُقِ التَّعْبِيرِ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: أَنَّهَا قَوْلُ النِّسَاءِ، وَمِنْهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ:
«أَتَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ» فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النِّسَاء: ٣٢] إِلَى هَذِه الْآيَة، فَتكون هَذِهِ الْآيَةِ إِكْمَالًا لِمَا يَرْتَبِطُ
بِذَلِكَ التَّمَنِّي. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ: نَشَزَتْ مِنْهُ زَوْجُهُ حَبِيبَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ فَلَطَمَهَا فَشَكَاهُ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَلْطِمَهُ كَمَا لَطَمَهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي فَوْرِ ذَلِكَ،
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَدْتُ شَيْئًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ
، وَنَقَضَ حُكْمَهُ الْأَوَّلَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا السَّبَبِ الثَّانِي حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ مِمَّا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالصَّالِحاتُ لِلْفَصِيحَةِ، أَيْ إِذَا كَانَ الرِّجَالُ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ فَمِنَ الْمُهِمِّ تَفْصِيلُ أَحْوَالِ الْأَزْوَاجِ مِنْهُنَّ وَمُعَاشَرَتِهِنَّ أَزْوَاجَهُنَّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَوَصَفَ اللَّهُ الصَّالِحَاتِ مِنْهُنَّ وَصْفًا يُفِيدُ رِضَاهُ تَعَالَى، فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّشْرِيعِ، أَيْ لِيَكُنَّ صَالِحَاتٍ.
وَالْقَانِتَاتُ: الْمُطِيعَاتُ لِلَّهِ. وَالْقُنُوتُ: عِبَادَةُ اللَّهِ، وَقَدَّمَهُ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَلَازُمِ خَوْفِهِنَّ اللَّهَ وَحِفْظِ حَقِّ أَزْوَاجِهِنَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ، أَيْ حَافِظَاتُ أَزْوَاجِهِنَّ عِنْدَ غَيْبَتِهِمْ. وَعَلَّقَ الْغَيْبَ بِالْحِفْظِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُ وَقْتُهُ. وَالْغَيْبُ مَصْدَرُ غَابَ ضِدَّ حَضَرَ. وَالْمَقْصُودُ غِيبَةُ أَزْوَاجِهِنَّ، وَاللَّامُ لِلتَّعْدِيَةِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ، إِذْ هُوَ غَيْرُ فِعْلٍ، فَالْغَيْبُ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَقَدْ جُعِلَ مَفْعُولًا لِلْحِفْظِ عَلَى التَّوَسُّعِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ ظَرْفٌ لِلْحِفْظِ، فَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا هُوَ مَظِنَّةُ تَخَلُّفِ الْحِفْظِ فِي مُدَّتِهِ: مِنْ كُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَحْرُسَهُ الزَّوْجُ الْحَاضِرُ مِنْ أَحْوَالِ امْرَأَتِهِ فِي عِرْضِهِ وَمَالِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا حَضَرَ يَكُونُ مِنْ حُضُورِهِ وَازِعَانِ: يَزَعُهَا بِنَفْسِهِ وَيَزَعُهَا أَيْضًا اشْتِغَالُهَا بِزَوْجِهَا أَمَّا حَالُ الْغَيْبَةِ فَهُوَ حَالُ نِسْيَانٍ وَاسْتِخْفَافٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا لَا يُرْضِي زَوْجَهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ أَوْ سَفِيهَةَ الرَّأْيِ، فَحَصَلَ بِإِنَابَةِ الظَّرْفِ عَنِ الْمَفْعُولِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَقَدْ تَبِعَهُ بَشَّارٌ إِذْ قَالَ:
وَيَصُونُ غَيْبَكُمْ وَإِنْ نَزَحَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute