مَوْصُولَةً، فَالْعَائِدَانِ مِنَ الصِّلَتَيْنِ مَحْذُوفَانِ: أَمَّا الْمَجْرُورُ فَلِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مَجْرُورٌ بِحَرْفٍ مِثْلَ الَّذِي جُرَّ بِهِ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ، وَأَمَّا الْعَائِدُ الْمَنْصُوبُ مِنْ صِلَةِ وَبِما أَنْفَقُوا فَلِأَنَّ الْعَائِدَ الْمَنْصُوبَ يَكْثُرُ حَذْفُهُ مِنَ الصِّلَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ هُوَ فَرِيقُ الرِّجَالِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَإِنَّ الضَّمِيرَيْنِ
لِلرِّجَالِ.
فَالتَّفْضِيلُ هُوَ الْمَزَايَا الْجِبِلِّيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي حَاجَةَ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ فِي الذَّبِّ عَنْهَا وَحِرَاسَتِهَا لِبَقَاءِ ذَاتِهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
يَقُتْنَ جِيَادَنَا وَيَقُلْنَ لَسْتُمْ ... بُعُولَتَنَا إِذَا لَمْ تَمْنَعُونَا
فَهَذَا التَّفْضِيلُ ظَهَرَتْ آثَارُهُ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ، فَصَارَ حَقًّا مُكْتَسَبًا لِلرِّجَالِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ بُرْهَانِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الرِّجَالِ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ فَإِنَّ حَاجَةَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ مُسْتَمِرَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ تَقْوَى وَتَضْعُفُ.
وَقَوْلُهُ: وَبِما أَنْفَقُوا جِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي للإيماء إِلَى أنّ ذَلِك أَمْرٍ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ مُنْذُ الْقِدَمِ، فَالرِّجَالُ هُمُ الْعَائِلُونَ لِنِسَاءِ الْعَائِلَةِ مِنْ أَزْوَاجٍ وَبَنَاتٍ.
وَأُضِيفَتِ الْأَمْوَالُ إِلَى ضَمِيرِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْ شَأْنِ الرِّجَالِ، فَقَدْ كَانَ فِي عُصُورِ الْبَدَاوَةِ بِالصَّيْدِ وَبِالْغَارَةِ وَبِالْغَنَائِمِ وَالْحَرْثِ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الرِّجَالِ، وَزَادَ اكْتِسَابُ الرِّجَالِ فِي عُصُورِ الْحَضَارَةِ بِالْغَرْسِ وَالتِّجَارَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ خِطَابِيَّةٌ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مُصْطَلَحِ غَالِبِ الْبَشَرِ، لَا سِيَّمَا الْعَرَبُ. وَيَنْدُرُ أَنْ تَتَوَلَّى النِّسَاءُ مَسَاعِيَ مِنَ الِاكْتِسَابِ، لَكِنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمَلِ الرَّجُلِ مِثْلَ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ نَفْسَهَا وَتَنْمِيَةِ الْمَرْأَةِ مَالًا وَرِثَتْهُ مِنْ قَرَابَتِهَا.
وَمِنْ بَدِيعِ الْإِعْجَازِ صَوْغُ قَوْلِهِ: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فِي قَالَبٍ صَالح للمصدرية وللموصولية، فَالْمَصْدَرِيَّةُ مشعرة بأنّ الْقِيَامَة سَبَبُهَا تَفْضِيلٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنْفَاقٌ، وَالْمَوْصُولِيَّةُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ سَبَبَهَا مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ فَضْلِ الرِّجَالِ وَمِنْ إِنْفَاقِهِمْ لِيَصْلُحَ الْخِطَابُ لِلْفَرِيقَيْنِ: عَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ، كَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ أَوِ الْحَارِثِيِّ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ ... فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute