وَأَحْسَبُ أَنَّ حِكْمَةَ تَشْرِيعِهِ تَقْرِيرُ لُزُومِ الطَّهَارَةِ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْرِيرُ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَتَرْفِيعُ شَأْنِهَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَلَمْ تُتْرَكْ لَهُمْ حَالَةٌ يَعُدُّونَ فِيهَا أَنْفُسَهُمْ مُصَلِّينَ بِدُونِ طَهَارَةٍ تَعْظِيمًا لِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ شَرَعَ لَهُمْ عَمَلًا يُشْبِهُ الْإِيمَاءَ إِلَى الطَّهَارَةِ لِيَسْتَشْعِرُوا أَنْفُسَهُمْ مُتَطَهِّرِينَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْيَدَيْنِ صَعِيدَ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَنْبَعُ الْمَاءِ، وَلِأَنَّ التُّرَابَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَطْهِيرِ الْآنِيَةِ وَنَحْوِهَا، يُنَظِّفُونَ بِهِ مَا عَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْذَارِ فِي ثِيَابِهِمْ وأبدانهم وَمَا عونهم، وَمَا الِاسْتِجْمَارُ إِلَّا ضَرْبٌ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَجْدِيدِ طَلَبِ الْمَاءِ لِفَاقِدِهِ وَتَذْكِيرِهِ بِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ عِنْدَ زَوَالِ مَانِعِهِ، وَإِذَ قَدْ كَانَ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً رَمْزِيَّةً اقْتَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ فِيهِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَقْصِدَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَدِمُوا الْمَاءَ فِي غَزْوَةِ
الْمُرَيْسِيعِ صَلَّوْا بِدُونِ وُضُوءٍ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ. هَذَا مُنْتَهَى مَا عَرَضَ لِي مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حِكْمَةٍ مُقْنِعَةٍ فِي النَّظَرِ، وَكُنْتُ أَعُدُّ التَّيَمُّمَ هُوَ النَّوْعَ الْوَحِيدَ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مَعْنَى التَّعَبُّدِ بِنَوْعِهِ، وَأَمَّا التَّعَبُّدُ بِبَعْضِ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْمَقَادِيرِ مِنْ أَنْوَاعِ عِبَادَاتٍ أُخْرَى فَكَثِيرٌ، مِثْلَ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ خَاصَّةً وَأَنْ يَنْقُلَ الْمُتَيَمِّمُ مِنْهُ إِلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، رَاعَى فِيهِ مَعْنَى التَّنْظِيفِ كَمَا فِي الِاسْتِجْمَارِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لم ينْقل عِنْد أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ مَا سَبَقَ إِلَى خَاطِرِ
عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَال، فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ»
. وَلِأَجْلِ هَذَا أَيْضًا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَقَعُ التَّيَمُّمُ بَدَلًا إِلَّا عَنِ الْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ، وَأَنَّ الْجُنُبَ لَا يُصَلِّي حَتَّى يَغْتَسِلَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ أَمْ فِي السَّفَرِ. وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ قَالَ أَبُو مُوسَى لَا بن مَسْعُودٍ: أَرَأَيْتَ إِذَا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا يُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارِ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيءُ: كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَلَمْ تَرَ عمر لم يقنع مِنْهُ بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو مُوسَى. فَدَعْنَا مِنْ قَوْلِ عَمَّارٍ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ: إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي هَذَا لَأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute