أَحَدِهِمُ الْمَاءَ أَنْ يَدَعَهُ وَيَتَيَمَّمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، تَأَوَّلَا آيَةَ النِّسَاءِ فَجَعَلَا قَوْلَهُ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ رُخْصَةً لِمُرُورِ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَا أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ مُرَادًا بِهِ اللَّمْسُ النَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ عَلَى نَحْوِ تَأْوِيلِ الشَّافِعِيِّ، وَخَالَفَ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ فِي هَذَا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَتَيَمَّمُ فَاقِدُ الْمَاءِ وَمَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ أَوِ الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَلَوْ نزلة أَو نَزْلَةً أَوْ حُمَّى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَتَيَمَّمُ إِلَّا فَاقِدُ الْمَاءِ أَوْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ دُونَ الْمَرَضِ أَوْ زِيَادَتِهِ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مُحَقَّقِ الْحُصُولِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفِ الْخَلْقَ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ.
وَقَدْ تَيَمَّمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، «فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَمْرٌو: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النِّسَاء: ٢٩] فَضَحِكَ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ
. وَقَوْلُهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ جَعَلَ التَّيَمُّمَ قَاصِرًا عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ
وَالْيَدَيْنِ، وَأَسْقَطَ مَسْحَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بَلْهَ أَعْضَاءِ الْغُسْلِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَطْهِيرا حسبّا، وَلَا تَجْدِيدَ النَّشَاطِ، وَلَكِنْ مُجَرَّدَ اسْتِحْضَارِ اسْتِكْمَالِ الْحَالَةِ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّ هَذَا تَيَمُّمٌ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ الْبَدَلَ عَنِ الْغسْل لَا يجزىء مِنْهُ إِلَّا مَسْحُ سَائِرِ الْجَسَدِ بِالصَّعِيدِ، فَعَلَّمَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ التَّيَمُّمَ لِلْجَنَابَةِ مِثْلُ التَّيَمُّمِ لِلْوُضُوءِ، فَقَدْ
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي سَفَرٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ (أَيْ تَمَرَّغْتُ) وصلّيت فَأتيت النَّبِي فَذَكَرْتُ ذَلِكَ فَقَالَ «يَكْفِيكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ»
وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالْبَاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» وَقَوْلِ النَّابِغَةِ- يَرْثِي النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ-:
لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا ... وَأَصْبَحَ جَدُّ النَّاسِ يَظْلَعَ عَاثِرَا
أَرَادَ إِنْ وَارَتْكَ الْأَرْضُ مُوَارَاةَ الدَّفْنِ. وَالْمَعْنَى: فَامْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْبَاءُ مَعَ الْمَمْسُوحِ فِي الْوُضُوءِ وَمَعَ التَّيَمُّمِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَسْحِ لِئَلَّا تَزِيدَ رُخْصَةٌ عَلَى رُخْصَةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute