للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا

سَبِيلَهُمْ

[التَّوْبَة: ٥] . وَقَالَ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَة: ٢٩] .

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ قَوَارِعِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَوَاعِظِهِمْ، فَيَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ لِقَصْدِ دَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ أَوِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَعِيدِ، وَهُوَ إِمَّا تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ لِتَشْنِيعِ جُرْمِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ لِيَكُونَ تَمْهِيدًا لِتَشْنِيعِ حَالِ الَّذِينَ فَضَّلُوا الشِّرْكَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِظْهَارًا لِمِقْدَارِ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمُ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّسَاء: ٥١] ، أَيْ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ بِحَالِ مَنْ لَا يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُ. وَالْمَغْفِرَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى التَّجَاوُزِ الدُّنْيَوِيِّ، وَعَلَى مَعْنَى التَّجَاوُزِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ تَعْلِيمِ حِكَمٍ فِي مَغْفِرَةِ ذُنُوبِ الْعُصَاةِ: ابْتُدِئَ بِمُحْكَمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَذُيِّلَ بِمُتَشَابِهٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فَالْمَغْفِرَةُ مُرَادٌ مِنْهَا التَّجَاوُزُ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ «فَهَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ» وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أُمُورًا مُشْكَلَةً:

الأول: أنّ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَغْفِرُ الْكُفْرَ الَّذِي لَيْسَ بِشِرْكٍ كَكُفْرِ الْيَهُودِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَغْفِرُ لِمُرْتَكِبِ الذُّنُوبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ لَا يَغْفِرُ لِلْكَافِرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ وَلِلْمُذْنِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، لِأَنَّهُ وَكَّلَ الْغُفْرَانَ إِلَى الْمَشِيئَةِ، وَهِيَ تُلَاقِي الْوُقُوعَ وَالِانْتِفَاءَ. وَكُلُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ قَدْ جَاءَتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَظَافِرَةُ عَلَى خِلَافِهَا، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مُخَالَفَةِ ظَاهِرِهَا، فَكَانَتِ الْآيَةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْحَاكِمَةُ بِبَيَانِ مَا تَعَارَضَ مِنْ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنْ يُقَالَ: النَّاسُ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: كَافِرٌ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَهَذَا مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ بِإِجْمَاعٍ، وَمُؤْمِنٌ مُحْسِنٌ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ مَحْتُومٌ عَلَيْهِ حسب الْوَعْد فِي اللَّهِ بِإِجْمَاعٍ وَتَائِبٌ مَاتَ عَلَى تَوْبَتِهِ فَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ فُقَهَاء الأمّة لَا حق بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِ، وَمُذْنِبٌ مَاتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ