للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْخِلَافِ:

فَقَالَتِ الْمُرْجِئَةُ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ بِإِيمَانِهِ وَلَا تَضُرُّهُ سَيِّئَاتُهُ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةً بِالْكُفَّارِ وَآيَاتِ الْوَعْدِ عَامَّةً فِي الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِذَا كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ فَهُوَ فِي

النَّارِ لَا مَحَالَةَ وَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: إِذَا كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ فَهُوَ فِي النَّارِ مُخَلَّدٌ وَلَا إِيمَانَ لَهُ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعْدِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةً بِالْمُؤْمِنِ الْمُحْسِنِ وَالْمُؤْمِنِ التَّائِبِ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ عَامَّةً فِي الْعُصَاةِ كُفَّارًا أَوْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: آيَاتُ الْوَعْدِ ظَاهِرَةُ الْعُمُومِ وَلَا يَصِحُّ نُفُوذُ كُلِّهَا لِوَجْهِهِ بِسَبَبِ تَعَارُضِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [اللَّيْل: ١٥، ١٦] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنّ: ٢٣] ، فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ آيَاتِ الْوَعْدِ لَفْظُهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ:

فِي الْمُؤْمِنِ الْمُحْسِنِ، وَفِيمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَفْوُ عَنْهُ دُونَ تَعْذِيبٍ مِنَ الْعُصَاةِ، وَأَنَّ آيَاتِ الْوَعِيدِ لَفْظُهَا عُمُومٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْكَفَرَةِ، وَفِيمَنْ سَبَقَ عِلْمُهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعَذِّبُهُ مِنَ الْعُصَاةِ. وَآيَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ جَلَتِ الشَّكَّ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ:

وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ مُبْطِلٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَقَوْلَهُ: لِمَنْ يَشاءُ رادّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ غُفْرَانَ مَا دُونُ الشِّرْكِ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ» . وَلَعَلَّهُ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الشِّرْكِ بِهِ بِمَا يَشْمَلُ الْكُفْرَ كُلَّهُ، أَوْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ أَشْرَكُوا فَقَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى أَشْرَكُوا فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ.

فَالْإِشْرَاكُ لَهُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْكَفْرُ دُونَهُ لَهُ مَعْنَاهُ.

وَالْمُعْتَزِلَةُ تَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» : بِأَنَّ قَوْلَهُ لِمَنْ يَشاءُ مَعْمُولٌ يَتَنَازَعُهُ لَا يَغْفِرُ الْمَنْفِيُّ وَيَغْفِرُ الْمُثْبِتُ. وَتَحْقِيقُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيَصِيرُ مَعْنَى لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ الْمَغْفِرَةَ لَهُ إِذْ لَوْ شَاءَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ لَغَفَرَ لَهُ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ الْمُمْكِنَ لَا يَمْنَعُهَا شَيْءٌ، وَهِيَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ، فَلَمَّا قَالَ: لَا يَغْفِرُ علمنَا أنّ (لِمَنْ يَشاءُ) مَعْنَاهُ لَا يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْ فَأَعْرِفُكَ فَاعِلًا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ تَعَسُّفٌ بَيِّنٌ.

وَأَحْسَبُ أَنَّ تَأْوِيلَ الْخَوَارِجِ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَتَأَوَّلُوا بِمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ مَفْعُولَ لِمَنْ يَشاءُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، أَيْ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ