للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ الْإِيمَانَ، أَيْ لِمَنْ آمَنَ، وَهِيَ تَعَسُّفَاتٌ تُكْرِهُ الْقُرْآنَ عَلَى خِدْمَةِ مَذَاهِبِهِمْ.

وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، إِنْ كَانَتْ مُرَادًا بِهَا الْإِعْلَامُ بِأَحْوَالِ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ فَهِيَ آيَةٌ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَهْوِيلُ شَأْنِ الْإِشْرَاكِ، وَأُجْمِلَ مَا عَدَاهُ إِجْمَالًا عَجِيبًا، بِأَنْ أُدْخِلَتْ صُوَرُهُ كُلُّهَا فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ الْمُقْتَضِي مَغْفِرَةً لِفَرِيقٍ مُبْهَمٍ وَمُؤَاخَذَةً لِفَرِيقٍ

مُبْهَمٍ. وَالْحِوَالَةُ فِي بَيَانِ هَذَا الْمُجْمَلِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى الْمُسْتَقْرَاةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ نَسَخَ مَا تَضَمَّنَتْهُ، وَلَا يَهُولُنَا أَنَّهَا خَبَرٌ لِأَنَّهَا خَبَرٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ مُعْظَمِ الْقُرْآنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَهَا، وَبِذَلِكَ يَسْتَغْنِي جَمِيعُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّعَسُّفِ فِي تَأْوِيلِهَا كُلٌّ بِمَا يُسَاعِدُ نِحْلَتَهُ، وَتُصْبِحُ صَالِحَةً لِمَحَامِلِ الْجَمِيعِ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَأْوِيلِهَا إِلَى الْأَدِلَّةِ الْمُبَيِّنَةِ، وَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ حمل الْإِشْرَاك على مَعْنَاهُ الْمُتَعَارف فِي الْقُرْآن والشريعة الْمُخَالف لِمَعْنى التَّوْحِيد، خلاف تَأْوِيل الشَّافِعِي الْإِشْرَاكِ بِمَا يَشْمَلُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَلَعَلَّهُ نَظَرَ فِيهِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بِأَنَّهُمَا مُشْرِكَتَانِ.. وَقَالَ: أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِنْ أَن يدعى الله ابْنٌ.

وَأَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ صَرِيحَةٌ فِي اخْتِلَافِ مَفْهُومِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَكَوْنُ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، لَا يَقْتَضِي جَعْلَهُمْ مُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَدَّعُوَا مَعَ ذَلِكَ لِهَذَيْنِ إِلَهِيَّةً تُشَارِكُ اللَّهَ تَعَالَى، وَاخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ بَيْنَ الْكُفْرَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَفْهُومُ مُطْلَقِ الْكُفْرِ، عَلَى أَنَّهُ مَاذَا يُغْنِي هَذَا التَّأْوِيلُ إِذَا كَانَ بَعْضُ الْكَفَرَةِ لَا يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ مِثْلَ مُعْظَمِ الْيَهُودِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ، أَيِ الْإِيمَانَ، يُوجِبُ مَغْفِرَتَهُ سَوَاءٌ كَانَ كُفْرَ إِشْرَاكٍ أَمْ كُفْرًا بِالْإِسْلَامِ، لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، إِمَّا بِوَعْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ مُطْلَقًا لَا يُغْفَرُ بِلَا شَكٍّ. إِمَّا بِوَعِيدِ اللَّهِ، أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ وَأَنَّ الْمُذْنِبَ إِذَا تَابَ يُغْفَرُ ذَنْبُهُ قَطْعًا، إِمَّا بِوَعْدِ اللَّهِ أَوْ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُذْنِبِ إِذَا مَاتَ عَلَى ذَنْبِهِ وَلَمْ يَتُبْ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا يُغَطِّي عَلَى ذُنُوبِهِ، فَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: يُعَاقَبُ وَلَا يُخَلَّدُ فِي الْعَذَابِ بِنَصِّ الشَّرِيعَةِ، لَا بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَشِيئَةِ، فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ وَعَرَّفَنَا مَشِيئَتَهُ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.