وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ هَذِهِ صِفَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ. وَأَكْثَرُ الْآثَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: نَخْلَةُ بَيْنَ عُسْفَانَ وَضَجْنَانَ مِنْ نَجْدٍ، حِينَ لَقُوا جُمُوعَ غَطَفَانَ: مُحَارِبٌ وَأَنْمَارُ وَثَعْلَبَةُ.
وَكَانَتْ بَيْنَ سَنَةِ سِتٍّ وَسَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ بِهَا هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَأَنَّ سَبَبَهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَوْا حِرْصَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاةِ قَالُوا: هَذِهِ الصَّلَاةُ فُرْصَةٌ لَنَا لَوْ أَغَرْنَا عَلَيْهِمْ لَأَصَبْنَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، فَأَنْبَأَ الله بذلك نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ. غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَدَّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَاقْتَضَى بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا تَقَعُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ خُصُوصِيَّةٌ لِإِقَامَتِهِ.
وَبِهَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ، وَأَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، وَعَلَّلُوا الْخُصُوصِيَّةَ بِأَنَّهَا لِحِرْصِ النَّاسِ عَلَى فَضْلِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرَّسُولِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَيِمَّةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَأْتَمَّ كُلُّ طَائِفَةٍ بِإِمَامٍ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ: لِمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ مَقْصِدَ شَرْعِ الْجَمَاعَةِ هُوَ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوْطِنِ الْوَاحِدِ، فَيُؤْخَذُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. عَلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَرَى دَلَالَةَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِإِمَامَةِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ جَزَمَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ لِلْمُسْلِمِينَ أَبَدًا. وَمَحْمَلُ هَذَا الشَّرْطِ عِنْدَهُمْ جَارٍ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُلَازَمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزَوَاتِهِمْ وَسَرَايَاهُمْ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «لَوْلَا أَنَّ قَوْمًا لَا يَتَخَلَّفُونَ بَعْدِي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ سَارَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاحْتِرَازَ عَنْ كَوْنِ غَيْرِهِ فِيهِمْ وَلَكِنَّ التَّنْوِيهَ بِكَوْنِ النَّبِيءِ فِيهِمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ قَائِمِينَ مَقَامَهُ فِي الْغَزَوَاتِ فَالَّذِي رَخَّصَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ يُرَخِّصُهُ لَهُمْ مَعَ أُمَرَائِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التَّوْبَة: ١٠٣] .
وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: «فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ» عُلِمَ أَنَّ ثَمَّةَ طَائِفَةً أُخْرَى، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ لِلطَّائِفَةِ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهَا، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ قَوْلِهِ: فَإِذا سَجَدُوا لِلطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَ النَّبِيءِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ مَعِيَّةُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute