فَإِذا سَجَدُوا. وَضَمِيرُ قَوْلِهِ: فَلْيَكُونُوا لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، لِظُهُورِ أَنَّ الْجَوَابَ وَهُوَ فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ مُتَعَيِّنٌ لِفِعْلِ الطَّائِفَةِ الْمُوَاجِهَةِ الْعَدُوِّ.
وَقَوْلُهُ: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى هَذِهِ هِيَ الْمُقَابِلَةُ لِقَوْلِهِ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ.
وَقَدْ أَجْمَلَتِ الْآيَةُ مَا تَصْنَعُهُ كُلُّ طَائِفَةٍ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ. وَلَكِنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ قَالَ: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ. فَجَعَلَهُمْ تَابِعِينَ لِصَلَاتِهِ، وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ صَلَاتَهُ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً مُسْتَقِلَّةً لَقَالَ تَعَالَى فَلْتُصَلِّ بِهِمْ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتِمًّا لِلصَّلَاةِ غَيْرَ مُقَصِّرٍ، أَوْ يَكُونُ صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ صَلَاةً: نَافِلَةً لَهُ، فَرِيضَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَسَنُ ذَلِكَ. وَيَرَى جَوَازَ ائْتِمَامِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الِائْتِمَامَ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَقْسِيمِ الصَّلَاةِ: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُومِينَ. وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا
رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَصَفَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ قَامَ، وَأَتَمُّوا رَكْعَةً لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَوَقَفُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَوُا الرَّكْعَةَ الَّتِي فَاتَتْهُمْ وَسَلَّمُوا
وَهَذِهِ الصِّفَةُ أَوْفَقُ بِلَفْظِ الْآيَةِ، وَالرِّوَايَاتُ غَيْرُ هَذِهِ كَثِيرَةٌ.
وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ ذَاتُ الْكَثْرَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَإِنْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ تَزِيدُ عَلَى الْأَلِفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الْأَنْعَام: ١٥٦] . وَأَصْلُهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ طَائِفَةِ الشَّيْءِ وَهِيَ الْجُزْءُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ اسْتُعْمِلَ الْأَخْذُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ: لِأَنَّ أَخْذَ الْحَذَرِ مَجَازٌ، إِذْ حَقِيقَةُ الْأَخْذِ التَّنَاوُلُ، وَهُوَ مُجَازٌ فِي التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ.
وَأَخْذُ الْأَسْلِحَةِ حَقِيقَةٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الْحَشْر: ٩] ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute