فَأَعَادَ التَّشْبِيهَ بِقَوْلِهِ: (كَدُخَانِ نَارٍ) لِيُحَقِّقَ مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْأَوَّلِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» «تَكَرَّرَ الْكُفْرُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُوسَى ثُمَّ بِعِيسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فَعُطِفَ بَعْضُ كُفْرِهِمْ عَلَى بَعْضٍ» ، أَيْ فَالْكَفْرُ الثَّانِي اعْتُبِرَ مُخَالِفًا لِلَّذِي قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ قَوْلِهِ:
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُوَيْفٍ الْقَوَافِيِّ:
اللؤم أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَوَالِدِهِ ... وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَمَا وَلَدَا
إِذْ عَطَفَ قَوْلَهُ: (وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ الثَّانِي قَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَمَا وَلَدَا) .
وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرُ بَهَتَهُ إِذَا أَتَاهُ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَا يَتَرَقَّبُهُ وَلَا يَجِدُ لَهُ جَوَابًا، وَالَّذِي يَتَعَمَّدُ
ذَلِكَ بَهُوتٌ، وَجَمْعُهُ: بُهُتٌ وَبُهْتٌ. وَقَدْ زَيَّنَ الْيَهُودُ مَا شَاءُوا فِي الْإِفْكِ عَلَى مَرْيَمَ- عَلَيْهَا السَّلَامُ-. أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَمَحَلُّ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُ: هُوَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنْ يَعُدُّوا هَذَا الْإِثْمَ فِي مَفَاخِرِ أَسْلَافِهِمُ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْإِخْلَافِ بِالْعَهْدِ الْمُبِينِ فِي سَبِيلِ نَصْرِ الدِّينِ.
وَالْمَسِيحُ كَانَ لَقَبًا لِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَقَّبَهُ بِهِ الْيَهُودُ تَهَكُّمًا عَلَيْهِ: لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسِيحِ فِي اللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ بِمَعْنَى الْمَلِكِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٤٥] ، وَهُوَ لَقَبٌ قَصَدُوا مِنْهُ التَّهَكُّمَ، فَصَارَ لَقَبًا لَهُ بَيْنَهُمْ.
وَقَلَبَ اللَّهُ قَصْدَهُمْ تَحْقِيرَهُ فَجَعَلَهُ تَعْظِيمًا لَهُ. وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ يُطْلِقُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ مُذَمَّمٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ: مُذَمَّمًا عَصَيْنَا، وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا.
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ (١)
(١) عَن أبي هُرَيْرَة فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» فِي بَاب مَا جَاءَ فِي أَسمَاء النَّبِي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كتاب المناقب.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute