للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عِنْدَ جَمِيعِ الْمِلِّيِّينَ، فَكَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى التَّحْقِيقِ إِذْ لَا تَدُلُّ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ لَهُ إِبْلَاغُ مُرَادِهِ النَّاسَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُوجِدَ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ يَتْرُكُهَا وَشَأْنَهَا، فَلَا يَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ بِحَمْلِهَا عَلَى ارْتِكَابِ حَسَنِ الْأَفْعَالِ وَتَجَنُّبِ قَبَائِحِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَلَقَ الْعَجْمَاوَاتِ فَمَا أَمَرَهَا وَلَا نَهَى، فَلَوْ تَرَكَ النَّاسَ فَوْضَى كالحيوان لما ستحال ذَلِكَ. وَأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ حَمْلَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى شَيْءٍ يُرِيدُهُ فَطَرَهَا عَلَى ذَلِكَ فَانْسَاقَتْ إِلَيْهِ بِجِبِلَّاتِهَا، كَمَا فَطَرَ النَّحْلَ عَلَى إِنْتَاجِ الْعَسَلِ، وَالشَّجَرِ عَلَى الْإِثْمَارِ. وَلَوْ شَاءَ لَحَمَلَ النَّاسَ أَيْضًا عَلَى جِبِلَّةٍ لَا يَعْدُونَهَا، غَيْرَ أَنَّنَا إِذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَالِمٌ، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ، وَالْعِلْمُ يَقْتَضِي انْكِشَافَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، فَهُوَ إِذْ يَعْلَمُ حَسَنَ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا، يُرِيدُ حُصُولَ الْمَنَافِعِ وَانْتِفَاءَ الْمَضَارِّ، وَيَرْضَى بِالْأُولَى، وَيَكْرَهُ الثَّانِيَةَ، وَإِذِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ أَنْ جَعَلَ الْبَشَرَ قَابِلًا لِلتَّعَلُّمِ وَالصَّلَاحِ، وَجَعَلَ عُقُولَ الْبَشَرِ صَالِحَةً لِبُلُوغِ غَايَاتِ الْخَيْرِ، وَغَايَاتِ الشَّرِّ، وَالتَّفَنُّنِ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَبْلُغُ فِيمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِلَى غَايَةٍ فُطِرَ عَلَيْهَا لَا يَعْدُوهَا، فَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ طُغْيَانُ الشَّرِّ عَلَى الْخَيْرِ بِعَمَلِ فَرِيقِ الْأَشْرَارِ مِنَ الْبَشَرِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يَرْضَاهُ، وَتَرْكِ الشَّرِّ الَّذِي يَكْرَهُهُ، وَحَمْلُهُمْ عَلَى هَذَا قَدْ يَحْصُلُ بِخَلْقِ أَفَاضِلِ النَّاسِ وَجَبْلِهِمْ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ، فَيَكُونُونَ دُعَاةً لِلْبَشَرِ، لَكِنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ اقْتَضَى أَنْ يَخْلُقَ الصَّالِحِينَ الْقَابِلِينَ لِلْخَيْرِ، وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى بُلُوغِ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ بِإِرْشَادِهِ وَهَدْيِهِ، فَخَلَقَ النُّفُوسَ الْقَابِلَةَ لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَأَمَدَّهَا بِالْإِرْشَادِ الدَّالِّ عَلَى مُرَادِهِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُ بِالْوَحْيِ، كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ

تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: ١٢٤] فَأَثْبَتَ رِسَالَةً وَتَهْيِئَةَ الْمُرْسَلِ لِقَبُولِهَا وَمِنْ هُنَا ثَبَتَتْ صِفَةُ الْكَلَامِ. فَعَلِمْنَا بِأَخْبَارِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنَ الْبَشَرِ الصَّلَاحَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بِذَلِكَ بَلَغَ إِلَى الْبَشَرِ فِي عُصُورٍ، كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بَعْضَ أَعْمَالِ الْبَشَرِ وَلَا يَرْضَى بَعْضَهَا وَأَنَّ ذَلِكَ يسمّى كلَاما نفسيا، وَهُوَ أَزَلِيٌّ.

ثُمَّ إِنَّ حَقِيقَةَ صِفَةِ الْكَلَامِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ الْعِلْمِ، أَوْ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ صِفَةِ الْإِرَادَةِ، أَوْ صِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُتَمَيِّزَةٍ عَنِ الصِّفَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ