للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَهَذِهِ الْآيَةُ مُلْجِئَةٌ جَمِيعَ الْفِرَقِ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِالذُّنُوبِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذُّنُوبُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الِاعْتِقَادِ، وَالرَّاجِعَةُ إِلَى الْعَمَلِ، وَفِي وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ. فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ عِنْدَنَا مِنْ تَمَامِ الْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرْسِلْهُمْ لَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْعَذَابِ مُجَرَّدَ الْإِطْلَاقِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْخَالِقِيَّةُ إِذْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَكَانَتْ عَدْلًا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ.

فَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ تُتَرْجَمُ عَنْ أَقْوَالِهِمْ طَرِيقَةُ الْأَشْعَرِيِّ، فَعَمَّمُوا وَقَالُوا:

لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى تَرْكٍ أَوْ فِعْلٍ إِلَّا بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ حَتَّى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا: مِثْلِ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء:

١٥] وَبِالْإِجْمَاعِ. وَفِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ نَظَرٌ آخَرُ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ، وَهِيَ ظَوَاهِرُ، عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ نَظَرٌ ثَالِثٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَكَاثَرَتْ كَثْرَةً أَبْلَغَتْهَا إِلَى مَرْتَبَةِ الْقَطْعِ، وَهَذَا أَيْضًا مَجَالٌ لِلنَّظَرِ، وَهُمْ مُلْجَئُونَ إِلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِمُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ.

وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرُّسُلَ فِي الْآيَةِ كُلٌّ إِفْرَادِيٌّ، صَادِقٌ بِالرَّسُولِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّعْوَةِ. فَأَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى جُمْلَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، الَّذِينَ تَقَرَّرَ مِنْ دَعَوَاتِهِمْ عِنْدَ الْبَشَرِ وُجُوبُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَأَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى تَفْصِيلِ الْآيَاتِ وَالصِّفَاتِ وَإِلَى فُرُوعِ الشَّرَائِعِ، فَهِيَ تَتَقَرَّرُ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَخْتَصُّونَ بِأُمَمٍ مَعْرُوفَةٍ.

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أثبتوا الْحسن والقبح الذَّاتِيَّيْنِ فِي حَالَةِ عَدَمِ إِرْسَالِ رَسُولٍ فَقَالُوا:

إِنَّ الْعَقْلَ يَثْبُتُ بِهِ وُجُوبُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَحُرْمَةُ كَثِيرٍ، لَا سِيَّمَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ دَافِعَةٌ لِلضُّرِّ الْمَظْنُونِ، وَهُوَ الضُّرُّ الْأُخْرَوِيُّ، مِنْ لِحَاقِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَخَوْفِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفِرَقِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْمُحَارِبَاتِ، وَهُوَ ضُرٌّ دُنْيَوِيٌّ، وَكُلُّ مَا يَدْفَعُ الضُّرَّ الْمَظْنُونَ أَوِ الْمَشْكُوكَ وَاجِبٌ عَقْلًا،